في المدرسة الابتدائية الحكومية الواقعة على طرف مربع المدارس في المدينة السكنية الجديدة المتاخمة للقاهرة، يتوافد التلاميذ في الصباح الباكر وكل منهم يحمل زاده وزواده. بعضهم يحمل كيساً بلاستيكياً تتكور في داخله لفافة متضخمة تنضح بمحتواها البقولي الذي جهزته الأم على عجالة في ساعات الصباح الأولى، أو أمدهم به"عم حسين"البائع الذي اتخذ من سور المدرسة مركزاً شبه دائم له. زجاجات الزيت والخل والتوابل مرصوصة بعناية على السور، بينما"قِدرة"الفول الضخمة مثبتة على طاولة خشبية متهالكة وتحيطها شتى أنواع الشهيات من مخللات وبندورة وشرائح الخيار وحلقات البصل وعيدان الجرجير."عم حسين"، يقوم بأكثر من دور، ومعلمو المدرسة يتناولون إفطارهم عنده كل صباح، أما المعلمات فيتوقفن للشراء على طريقة ال take away، في حين يقوم صبيه الصغير بتلبية نداءات ال delivery أثناء ساعات الدراسة. السندوتش الواحد يتكلف 25 قرشاً، والخصوصي ب30 قرشاً، أما ال"سوبر"ذو القروش ال50 فتتوسطه بيضة مسلوقة ضخمة، ولا يقوى على سعره سوى القلة القليلة. وفي داخل المدرسة"كانتين"يسيطر عليه أستاذ مادة الزراعة وساعده الأيمن"دادة"أم أحمد ذات البنيان المهيب ومعهما شرذمة من التلاميذ المتبرعين بوقتهم وجهدهم في مقابل سندوتش مجاني. يقومون في ساعات الصباح وقبل اليوم المدرسي بحشو السندوتشات بالفول والمربى والجبن، في حين تقوم"دادة أم أحمد"بتنظيم سير الطوابير وشجب من تسوّل له نفسه التجمهر أو التسلل من دون وجه حق إلى المقدمة. كما أنها تستثمر أمواله بالإتجار في سلع لا يقوى على شرائها سوى قلة، مع أنها من النوع الرديء. المنظومة نفسها التي تحوي"عم حسين"بائع ساندوتشات الفول المتمركز على سور المدرسة، وپ"الكانتين"بقطبيه الرئيسين المتمثلين في أستاذ الزراعة وپ"دادة أم أحمد"، والتلاميذ المحملين باللفافات الغذائية المنزلية تتكرر في بقية مدارس المربع ولكن بألوان وأشكال مختلفة، وذلك بحكم أن هذه المدرسة هي الوحيدة الحكومية التي يلتحق بها أبناء الطبقات الفقيرة للتمتع بما تبقى من نظام"التعليم المجاني". ففي مدرسة أخرى تحمل سمة"الدولية"، يتوافد التلاميذ في التوقيت ذاته وبعضهم يحمل الlunch box ذات الأشكال المثيرة وواجهاتها تحمل تجسيماً ثلاثي الأبعاد للأبطال المعروفين بدءاً من"سوبر مان"وپ"سبايدر مان"وانتهاء بپ"باربي"وپ"دورا"، وذلك بحسب جنس حاملها. وهذه هي بداية المطاف الغذائي في مثل هذه النوعية من المدارس. ففي الداخل"كانتين"أشبه بالسوبر ماركت تباع فيه كل أنواع الساندوتشات المصنوعة من الخبز الفرنسي والكرواسون المحشو بالجبن الشيدر والسلطات المختلفة من"سلطة سيزر"وپ"آلا غريك"والتي تباع في عبوات بلاستيكية أنيقة. وتتراوح الأسعار هنا بين ثماينة إلى 15 جينهاً مصرياً للمنتج الواحد. ومن دواعي سعادة التلاميذ وفخرهم بالمدرسة الفكرة الجديدة التي تفتق عنها ذهن الإدارة إذ تم الاتفاق مع عدد من سلاسل مطاعم الوجبات السريعة الشهيرة بتوريد منتجاتها إلى المدرسة ظهر كل يوم، ففي يوم الأحد تصل سيارة"مكدونالدز"إلى البوابة حاملة معها ما لذ وطاب من"تلال"البرغر والبطاطا المحمرة، ويوم الاثنين تأتي سيارة"بيتزا هت"حاملة دوائرها المعجنة المتخمة بالجبن والإضافات المحببة. هذا ما يحدث على أرض الواقع المدرسي الغذائي، لكن البعد النظري يختلف تماماً. ففي صيف العام الماضي، بلغ الاهتمام الرسمي بالتغذية المدرسية ذروته، إذ قال الرئيس المصري حسني مبارك أن الوجبة المدرسية عنصر مشجع لعدم تسرب الطلاب، لا سيما في المرحلة الابتدائية، إضافة إلى انعكاساتها على الصحة المدرسية. وعلى رغم زيادة موارد الدولة المخصصة للوجبة المدرسية من 30 مليون جنيه عام 1986 إلى 333 مليون جنيه في موازنة عام 2007، ولم تحل الزيادة مشكلة عدم توافرها للجميع، وذلك بسبب المركزية الشديدة في إدارة منظومة الوجبات المدرسية. ويشار إلى أن عدداً كبيراً من المدارس الابتدائية في أنحاء مختلفة في مصر شهد خلال السنوات القليلة الماضية حوادث تسمم جماعية عانى منها التلاميذ بسبب فساد الوجبات المدرسية، وهي الحوادث التي كشفت الستار عن عصابات متواطئة مع موردي أغذية فاسدة. وعلى رغم أن الرئيس مبارك طالب مسؤولي التعليم صراحة باستهداف المناطق الأكثر فقراً واحتياجاً في توجيه الوجبات المدرسية، إلا أن هناك قرى بأكملها لم يحصل تلاميذ مدارسها الابتدائية على وجبة مدرسية واحدة، وذلك بسبب"قلة الاعتمادات المالية المخصصة للوجبة في بعض المحافظات"، بحسب تصريحات المسؤولين، لكن المفارقة أن هذه المشكلة أكثر وضوحاً في المحافظات حيث القرى الأكثر فقراً، أي حيث التلاميذ الأكثر احتياجاً للوجبات المدرسية. وبين سندوتشات"مكدونادلز"وصحون فول"عم حسين"، ومشروع"دادة أم أحمد"الاستثماري، والپ"كانتين"الذي تحول إلى"سوبر ماركت"، وقلة الاعتمادات المالية المخصصة للوجبات المدرسية، يدور تلاميذ الابتدائي في حلقة مفرغة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.