من الدول المجاورة لبلدهم، ليس ثمة مثال إيجابي يغري السوريين بالاقتداء غير تركيا. العراق مثال سلبي يغري بالتجنب، ولبنان غير مستقر، والأردن غير جذاب، وإسرائيل عدوة. الحاجز اللغوي يضعف من إمكانية التماهي مع تركيا. وفي وقت سابق كان يمتزج في موقف السوريين من تركيا اعتبارات قومية موروثة عن زمن تفكك الامبراطورية العثمانية و"الثورة العربية"، مع افتقار الأتراك إلى ما يمكن أن يحسدهم عليه السوريون. قبل جيل واحد من اليوم، أي في أواخر عقد السبعينات من القرن العشرين كان دخل الفرد متقاربا في البلدين مع توزيع أفضل للدخل في سورية. بعدها ومنذ مطلع الثمانينات أخذت تركيا تحقق تقدمات مهمة في مجال الاقتصاد و"الحوكمة"الحكم الصالح بينما سيتجمد الاقتصاد السوري لنحو ربع قرن لم يتحقق متوسط لدخل الفرد في سورية معادل لما كان يناله عام 1979 إلا في 2004 حسب أحد الاقتصاديين السوريين، أما متوسط دخل الفرد في تركيا فيقارب اليوم 5000 دولارا سنويا، نحو أربعة أضعاف دخل نظيره السوري. وكانت سورية تخسر ما تحقق لها من تقدم اجتماعي وثقافي بسبب تمركز مفرط لحياتها العامة حول السلطة في شكلها الأكثر خشونة وعضلية، بينما ترتقي تركيا باطراد على المستويين. وأهم من الفوارق الساكنة بين البلدين الجارين، يبدو احتياطي تركيا من التقدم كبيرا، ويطور نظامها السياسي آليات إصلاح ذاتية تتحسن فاعليتها، فيما يتعمق افتقار النظام السياسي في سورية إلى آليات مناظرة، ويبدو احتياطي الممكنات الإيجابية معدوما، فيما يخشى أن يدخر المستقبل للبلد آفاقا أشد قتامة. بالمقارنة مع سورية تبدو تركيا بلدا مفتوح الآفاق. اقتصادها ناهض ويتمتع بهيكل إنتاجي أكثر تنوعا وبسوية تكنولوجية أكثر تقدما قياسا إلى سورية. وهي تقف على أبواب الاتحاد الأوربي، وخلال عقد قد تغدو عضوا كامل العضوية فيه. فيما تنخرط سورية في ارتباطات إقليمية، قد تحصن نظامها، لكنها تنذر بمزيد من الانغلاق الثقافي والاجتماعي. على أن أكثر ما يلفت انتباه المهتمين السوريين في تركيا هو تطورات بضع السنوات الأخيرة في نظامها السياسي. لقد طورت تركيا نظاما ثنائي القطب، إن صح التعبير: ثمة العسكر"العلمانيون"و"الإسلاميون"الحاكمون. ويلوح أن التوازن بين الطرفين يوسع الطاقة الديموقراطية للنظام السياسي ويندرج ضمن نظام العلمانية القومية الذي أسسه أتاتورك. ولعل من شأن استمرار هذه التوازن لبعض الوقت أن يفتح الباب أمام ترسخ الديموقراطية والعلمانية في الثقافة التركية، ما يجعل النكوص متعذرا. في سورية أيضا يبدو أن الأمور تتجه نحو تبلور نظام ثنائي القطب. ثمة النظام الحاكم من جهة، ومجتمع محكوم يتجه إلى الانتظام دينيا من جهة ثانية. بشيء من التبسيط يمكن أن نتكلم عن قطب الدولة وقطب الدين. بيد أن البنية السياسية التي تكتنف القطبين السوريين تختلف عن تلك التي تشمل مثيليهما في الجارة الشمالية. في سورية النظام الكلي متمركز حول السلطة وحمايتها ودوامها. وهي سلطة مشخصنة على حد بعيد، تُعرّف بالقائمين بها. في تركيا النظام الكلي هو نظام دولة قومية، تنزع السلطة لأن تكون فيها وكالة مشروطة ومؤقتة وغير مشخصنة. وبينما تتناسب شخصنة الدولة في سورية طردا مع ضعف وإضعاف شخصية البلد، فإن الدولة في تركيا قوية الشخصية، شخصنتها لذلك غير متصورة. هناك تتشكل بيروقراطية قومية، مستقلة عن الحاكم، تعيش للسياسة أكثر وتتعيش منها أقل، حسب تمييز شهير لماكس فيبر"أما هنا فالبيروقراطية تابعة، ما يحد بقوة من فرص العقلنة التي كان أناطها بها السوسيولوجي الألماني نفسه. وفي حين أخذت الآلة الانتخابية تتكفل بتجديد القيادات الحكومية المدنية في تركيا، فإن القيادات العسكرية النافذة ذاتها رؤساء الأركان، قيادات الجيش تتغير بين حين وآخر. أما الانقلابات العسكرية فيبدو أن عهدها ولى بعد انتهاء الحرب الباردة. لا تفتقر تركيا إلى مشكلات كبيرة تتصل بتقادم التشكل القومي للدولة التركية. مثلا تنحصر النخبة القائدة في فئة من يسميهم الماركسي الديموقراطي التركي باسكن أوران"لاهاساموت"، أي الأتراك إثنياً، المسلمون السنيون، الأحناف، العلمانيون ما يذكر بالواسب الأميركيين. ولعل من شأن الانضمام للاتحاد الأوربي المكون من دول ما بعد قومية أن يتيح لتركيا تجاوز التشكل القومي هذا، ويطور الطاقة الاستيعابية لنظامها السياسي باتجاه يوسع قاعدته الاجتماعية ويمهد لحل المشكلة الكردية، ويؤهل لفصل الكمالية عن الدولة، أي لعلمنة ما بعد قومية. بالمقابل يبدو مسار التطور السياسي لسورية نكوصيا، يعود إلى ما قبل القومي نحو تشكل سلطاني محدث. إن التقاء حاجات النظام السياسي إلى أدوات جديدة في الضبط المجتمعي وإلى إيديولوجية مشرعة أكثر فاعلية من إيديولوجيته المتداعية، مع شروط"الفقر السياسي"التي يعيشها السوريون، والتي تدفعهم إلى الاستحواذ على السياسة عبر الدين، ومع طور قومي جديد"ممانع"، يعرف الوطنية والقومية بدلالة الموقف من"الخارج"الغربي، الالتقاء هذا يوفر شروطا مناسبة لتوسع اجتماعي أكبر للسلطة الدينية. في تركيا يعمل حزب العدالة والتنمية ضمن النظام القومي العلماني، فلا هو أداة من أدوات السلطة، ولا هو يتطلع إلى تديين الدولة. ولو خامرته تطلعات من هذا الصنف فإن في البلاد حراس أشداء للعلمانية القومية: الجيش، وقطاعات ناشطة من المثقفين والنساء والأحزاب السياسية. تبدو احتمالات أسلمة الدولة في تركيا معدومة تماما، وتكاد تكون معادلة لها احتمالات إقصاء التنويعة التركية من الإسلاميين من الحياة السياسية والعامة. في الحصيلة تتجه سورية نحو نظام سلطاني محدث، تنتظم فيه"الرعية"دينيا، بينما يعلو على تمايزاتها مركز سلطة متعال كلي القدرة والحصانة. أما تركيا فيبدو أنها تقطع نهائيا مع السلطانية، ومع الانقلابات العسكرية واللااستقرار السياسي. ثمة"جيوب علمانية"ضيقة في سورية، تبدو هي ذاتها من لوازم نظام الملل المحدث المتكيف مع السلطانية المحدثة، فيما العلمانية هي منطق السياسة والقانون والتعليم والثقافة في تركيا. وبدلا من ثنائية علمانية/إسلامية، تتجه تركيا نحو علمنة علمانيتها القومية الكمالية، وتطوير صيغة أكثر انفتاحا وديموقراطية للعلمانية. ورغم أن الجاذبية التركية حديثة، عمرها عقد أو أقل، إلا أن صورة تركية تزداد إيجابية في سورية. ينجذب إليها إسلاميون يبحثون عن صيغة مصالحة بين الإسلام والحداثة، فيجدونها فيها. كما تجتذب ديموقراطيين يجدون في تركيا دولة قومية عرفت كيف تدمج الإسلاميين في الحياة السياسية على أرضية علمانية. ولعلها جديرة بأن تكون جذابة عند علمانيين، ربما يرغبون في تطوير تصور للعلمانية أقل تمركزا حول الذات. وربما كذلك عند رجال أعمال تجتذبهم مصالحهم إلى تركيا، ويجدون في الانفتاح على السوق التركية ما قد ينعش مشاريعهم، هذا فضلا عن أنهم لا يشعرون فيها بالغربة نظرا إلى تقارب البلدين جغرافيا، وبدرجة ما اجتماعيا ونفسيا وثقافيا. وكم حري بالقوميين أن يتجاوزوا ذكريات الماضي، فيدرسوا المثال التركي ويعملوا على التعلم منه.