ربما اكتفى رئيس أركان الجيش الاسرائيلي، غابي اشكنازي، بالتدقيق في ما ورد في تقرير لجنة فينوغراد، حول معركة بنت جبيل ليدرك المهام الصعبة والتحديات الكبيرة التي وضعها أمامه التقرير، على اكثر من جبهة: جبهة التنظيمات والدول التي تعتبرها اسرائيل معادية لها. وجبهة الشارع الاسرائيلي وكيفية استعادة ثقته بجيش اعتاد ان يتعامل معه كأقوى جيوش العالم. وجبهة الجنود وكيفية تعزيز ثقتهم بقيادتهم العسكرية التي شاركت في حرب لبنان ويحملها التقرير المسؤولية عن الفشل الإداري للحرب. معركة بنت جبيل، أخذت من تقرير فينوغراد حيزاً كبيراً من الاهتمام والمساحة حيث اعتبر أعضاء اللجنة المعارك في هذه البلدة اللبنانية والفشل الذي لحق بالجيش الإسرائيلي دلالة واضحة على وضعية الجيش وإدارته الفاشلة للحرب. وأظهر التقرير كيف تحولت عملية"بيت العنكبوت الفولاذي-2"الى فشل ذريع يتم تدريسه في الكليات الحربية في العالم مشيراً الى ان وزير الدفاع، آنذاك، عمير بيرتس، ورئيس أركان الجيش، دان حالوتس، والقيادة العسكرية اعترفوا ان العملية التي أرادت منها اسرائيل ان تكون نصراً كبيراً لجيشها في الأيام الأخيرة من الحرب تحولت الى مصيبة اسرائيلية كبرى، جعلت حزب الله يعلن الانتصار المفاجئ الذي، لم تتوقعه إسرائيل، كما ورد في التقرير. وحملت لجنة فينوغراد مسؤولية هذا الفشل الى اكبر مسؤول في الجيش وحتى اصغر جندي. التفاصيل التي يشملها التقرير تشير الى ان الجيش وضع عنواناً للعملية وتوجه لتنفيذها من دون وضوح في المهمة. وجاء ان معركة بنت جبيل اخذت من الجيش الوقت الأطول والجهد الاكبر خلال الحرب وفي النهاية فشل في السيطرة على البلدة اللبنانية. وكما الحال في معركة بنت جبيل انعكست صورة قاتمة لوضع الجيش في مختلف الجوانب التي تطرق اليها التقرير، وعلى رغم ان التدقيق فيه يظهر ان المسؤولية التي حملتها اللجنة للمؤسسة السياسية هي أيضاً كبيرة ولكن مسؤولية المؤسسة العسكرية تبقى الأكبر، بغض النظر عن ان السياسيين نجحوا في التقليل من خطورة مسؤوليتهم خصوصاً في معركة بنت جبيل. وهذا أمر وضع الجيش بكل مؤسساته داخل قفص الاتهام ، ومن هنا، تكون مهمة اشكنازي صعبة. رئيس الأركان سبق وأعلن انه على مدار سنة ونصف السنة من انتهاء الحرب على لبنان تقدم في خطواته لتحقيق الهدف الذي وضعه نصب عينيه ولكن، وفق ما يرى عسكريون وسياسيون وخبراء، فإن التقرير سحق ما فعله اشكنازي ليبدأ جولة جديدة من بناء الثقة والهيبة. مقربون من اشكنازي قالوا انه أخذ الإهانة التي وجهها التقرير للجيش بصورة شخصية، الى حد انه كان مستعداً لتقديم استقالته. فبالنسبة اليه توقع ان يتطرق التقرير لكبار ضباط الجيش بشكل شخصي من دون ان يشمل القيادة العسكرية ككل... توقع اشكنازي ان يتطرق التقرير الى رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، عاموس يدلين والقائد السابق لسلاح البحرية عين بعد الحرب ملحقاً عسكرياً في واشنطن، والجنرالين بيني جينتس وغابي ايزنكوت، الذي شغل منصب سكرتير عسكري لرئيس الحكومة أثناء الحرب وعين قائداً للمنطقة الوسطى وغيرهم. ويقول ايال بن رؤوفين، الذي شغل منصب نائب قائد الجبهة الداخلية في الجيش، في حرب تموز يوليو، وهو صديق مقرب لاشكنازي، ان رئيس الأركان أمام مهمة صعبة بعد التقرير لكن، برأي بن رؤوفين، فإن الخطة التي يضعها ستساعده على تجاوز الصعاب الداخلية والتحديات الخطيرة التي تواجهها إسرائيل من مختلف الجبهات، مع حماس وحزب الله وسورية وإيران. وقال بن رؤوفين:"كواحد ممن شاركوا في الحرب على لبنان أرى ان الأخطاء التي ارتكبت كانت فادحة وقد عكس التقرير الصورة الصحيحة لها ولكن الأهم ان ما حصل لاحقاً من استقالة دان حالوتس واستقالات أخرى لشخصيات عسكرية، أعطى اشكنازي دفعة الى الأمام من اجل ان يحسن الوضع. وقد استطاع خلال سنة ونصف السنة إحداث قفزة كبيرة في الجيش، لكن ما ورد في التقرير أدى الى خلق نفسية داخل الجيش قد تؤثر في شكل خطير، وهذا يضع اشكنازي أمام مهمة صعبة في استعادة الثقة بهذا الجيش على كل المحاور. والاهم ان اشكنازي لن ينفذ ذلك من خلال افتعال حرب او مواجهات". وفي لقاء له مع اشكنازي بعد نشر تقرير فينوغراد ناقش بن رؤوفين ما يمكن ان ينفذه رئيس أركان الجيش لترميم الأضرار التي نشأت من تقرير فينوغراد وقال ان المسار الذي سينفذه اشكنازي ليس سهلاً ومدته الزمنية طويلة ولكن المهم ان يدرك السياسيون ما يفكر به رئيس أركان الجيش وأنهم يرتكبون خطأ فادحاً اذا واصلوا استخدام الجيش كأداة لتحقيق أهدافهم. وفي سياق محاولة امتداحه صديقه اشكنازي يقول بن رؤوفين ان الجيش بات ذا قوة كبيرة قادرة على المواجهات المحتملة ولكن في الوقت نفسه ، يضيف:"كلما كانت للجيش قوة اكبر كلما كانت القيود عليه لتفعيلها اكبر، وهنا تكمن المشكلة". كيف ينوي اشكنازي استعادة هذه الثقة؟ تقرير فينوغراد لم يتجاهل التغييرات الكبيرة التي أجراها اشكنازي منذ تسلمه منصبه. وللفت النظر حول هذا الجانب في التقرير نشر الناطق بلسان الجيش بياناً مطولاً يشرح فيه الإنجازات التي نفذها منذ انتهاء الحرب وامتدحتها اللجنة. ما أورده الجيش في البيان لم يقنع العديد من الضباط والخبراء الذين رأوا ان اشكنازي ملزم لغرض ترميم الجيش بتشكيل افضل منتخب مهني. وهو في حاجة الى جنرالات وعدد من القادة الذين قد يكون هو تسرع في التخلي عنهم او ان ظروفاً صعبة دفعتهم الى الاستقالة من الجيش بالإشارة الى ان ابرز الشخصيات التي يحتاجها اشكنازي الى جانبه غال هيرش، الذي شغل منصب قائد الفرقة 91 في الحرب. ولكن المشكلة هي في كيفية الحفاظ على ضباط لهم أهمية كبيرة في الجيش ويدعمون اشكنازي في تحقيق أهدافه. فالتقديرات ان عددا ليس قليلاً من الضباط تضررت شروط خدمتهم جراء التقليصات التي نفذتها وزارة الدفاع من اجل توفير موازنات التسلح العسكري وهؤلاء قد يقدمون استقالاتهم ويتوجهون الى أماكن عمل خاصة، وقد يدفعهم تقرير فينوغراد الى الإسراع باتخاذ القرار. ويخطط اشكنازي حالياً لتكثيف التدريبات العسكرية والاستعجال في تنفيذ خطته لجيش الاحتياط ومحاربة ظاهرة التهرب الى جانب تقديم تعليمات واضحة لضباطه بالامتناع عن المظاهر السياسية والتصريحات الإعلامية خوفاً من زيادة غرق الجيش بالسياسة. ماذا يمكن لخطة اشكنازي ان تشمل؟ خبير الأمن القومي، فادي نحاس يرى ان اشكنازي لن يبادر الى قراءات استراتيجية جديدة تتبناها إسرائيل وتتناسب مع المعطيات الاقليمية الجديدة ويقول:"اشكنازي يتفق مع لجنة فينوغراد بأن معالجة الاخفاقات الأدائية للجيش ستمكن إسرائيل من الانتصار في الحرب المقبلة انطلاقاً من ان ما لا تحققه القوة تحققه قوة أكبر، وما لا تحققه الحرب الجوية يمكن أن تحققه الحرب البرية. ومن هذا المنطلق يعمل اشكنازي". ويرى نحاس ان تقرير فينوغراد تجنب البحث والنقاش بما يتعلق بالرؤية الاستراتيجية العسكرية التي تتبناها إسرائيل في وقت ركز على فشل الأداء العسكري في الحرب من عدم وضوح وفهم الأهداف العسكرية للحرب"اختلالات ونواقص جوهرية لوجستية"مفهوم التشغيل العملاني للجيش، فشل الاستخبارات العسكرية الميدانية على جميع المستويات، كفاءات جنرالات الحرب"حرب الجنرالات الداخلية وغيرها. والمشكلة برأي نحاس، ان الحرب سرَّعت في تبديد الأوهام الاسرائيلية حول إمكانية استعادة هيبة الردع لديها ويقول:"منذ الأيام الأولى للحرب اتضح بأنّ التفوق العسكري لم يضمن الحفاظ على أسس قوة الردع العسكري وضمان الأمن القومي الذي تبنته إسرائيل منذ سنوات الخمسينات. لقد حطَّمت هذه الحرب أهم عناصر الردع التقليدي عند إسرائيل: الاعتماد الأساس على التفوق الجوي القادر على شل تام لحركة العدو وضرورة حسم المعركة خلال فترة زمنية قصيرة وضرب وتدمير البنية التحتية وقتل المدنيين انطلاقاً من انه قد يساهم في ردع العدو من المبادرة بالهجوم وتصدير الحرب بشكل كامل إلى أرض العدو لتفادي الخسائر البشرية ولكونها غير قادرة على تحمل أي ضربة على المدنيين، خصوصاً أن إسرائيل لا تملك عمقاً جغرافياً استراتيجياً وخوض الحرب دون تكبد خسائر بشرية أي خوض حرب"دون ضحايا". يبقى السؤال: أية حرب هي تلك التي ستبادر اليها إسرائيل لتحقيق هذه العبر؟ هل هي حرب ضد لبنان من جديد؟ هل هي حرب ضد سورية؟ هل هي ضد الفلسطينيين في قطاع غزة ، أم إنها حرب على إيران؟! وهل سيكون حلفاء إسرائيل في واشنطن وغيرها من العواصم ، مستعدين لدعم إسرائيل في حرب أخرى كهذه؟