على رغم إقفال"مُصادِم هادرون الكبير"Large Hadron Collider لحين إصلاح أعطاله في الربيع المقبل، لم يُقفل الباب تماماً على المخاوف التي أثارها فيزيائيون وإعلاميون معارضون للتجربة الكبرى في"المركز الأوروبي للأبحاث النووية"سيرن التي توقفت بعد 9 أيام من تشغيل الدوائر الأولى عندما ظهر عطل في المُسَرّع العملاق. وللمرة الاولى في تاريخ البشر، يثير اختبار علمي هذا المقدار من الضجيج الإعلامي والقلق على مصير التجربة التي وُصِفَتْ بأنها"تهدد كوكب الأرض بالفناء". وتناثرت أخبار عن احتمال أن يستولد المُصادِم العملاق ثقباً أسود متناهي الصغر، يمتص المادة القريبة بجاذبيته المميزة ويسحقها في نقطة فرادته، لتكبر جاذبيته باطّراد كلما ابتلع مواد جديدة وتُصبح جاذبيته أشد قوة، ويتنامى هكذا بسرعة إلى أن يبتلع كوكب الأرض برُمّته. ويمكن تعريف الثقب الأسود على أنه تجمّع شديد الكثافة للمادة بحيث أن الضوء نفسه لا يمكنه الإفلات من جاذبيته. وتتميّز مادته بالكثافة وبالانضغاط الهائلين، ما يجعلها تسير ويتّجه بها نحو حجم متناهٍ في الصغر يسمّى"فرادة"Singularity. فمثلاً، إذا انضغطت الشمس لتصبح ثقباً أسود، لن يزيد حجم مادتها عن 3 كيلومترات مكعبة، في ما يبلغ قطرها طبيعياً قرابة مليون وأربعمئة ألف كيلومتر. وماذا تعني كلمة"فرادة"بالنسبة الى علم الفيزياء؟ تخيّل مجموعة من البط يجرفها تيار مائي قوي وتسقط مع شلالات"نياغارا"نزولاً. إذا حدث أن بطة سارت بالعكس، على نحو غير مفهوم تماماً، وصعدت إلى الأعلى سابحة على مياه الشلال، فإن ذلك الحدث يُسمى"فرادة". السيناريو المحتمل ونظرية الأوتار ترافق الفرح بانطلاق التجربة الأكثر خطورة تاريخياً، في مطلع الخريف الفائت، مع شيء من القلق من المآل النهائي للانفجارات الذرية التي يتوقع أن ينجح"مُصادِم الذرّات هادرون الكبير"في استيعابها. وتهدف التجربة الى تمكين العلماء من"التفرّج"على قلب الانفجارات النووية والطُرق التي تتفاعل فيها مكوّنات الذرة تفصيلاً، وكذلك"رؤيتها"أثناء توليد الطاقة الذرية. والمعلوم أن الطاقة التي يتوقع أن يولدها"مُصادِم هادرون الكبير"تفوق ملايين القنابل الذرية. وفي إطار من التشاؤم غير المبرّر علمياً، روّجت بعض وسائل الإعلام لمقولة أن تلك التجربة قد تحمل نهاية الكرة الأرضية، وتبدّدها غباراً تحيطه موجات عظيمة من الطاقة، فتصبح أشبه بثقب أسود. والأرجح ألا ترتاح أعصاب العلماء إلا حين تصل الأمور الى خواتيمها، في الربيع المقبل، اي حين يحصل التُصادِم المنتظر بين حزم من أنوية الذرات تسير بسرعة هائلة في اتجاهين متعاكسين، وبطاقة تبلغ 450 الكترون فولت. والمعلوم أن نواة الذرّة تتألف أساساً من بروتونات ونيوترونات متلاصقة بشدة. وفي المواد المُشعة، يكون هذا التلاصق"قلقاً"وحساساً، ما يجعل فصله ممكناً. ولذا، تُقصف النواة بكمية كافية من الطاقة، فتنفصل تلك الجُزيئات عن بعضها البعض، مُصدرة كميات هائلة من الطاقة والحرارة، التي تندفع حاملة معها بقية مُكونّات الذرة والأشعة وغيرها. وفي تجربة"هادرون"، تُطلق حُزم من البروتونات داخل المُعجّل، الذي يتولى رفع سرعتها لتسير بسرعة تقل قليلاً عن سرعة الضوء. وعند ارتطام تلك الأمواج الضوئية، تندلع حرارة هائلة تفوق آلاف المرات قوة الشمس وحرارتها. وبذا، تتحول أنابيب"هادرون"التي تسير تحت أرض المنطقة الحدودية بين سويسرا وفرنسا، إلى أحد أكثر النقاط سخونة في المجرّة. ولعل تلك الحرارة الخيالية هي التي تثير الذعر عند الذين يخشون من أن تنفلت التجربة من السيطرة، فتجر ويلات لا تستطيع البشرية ان تحتمل عواقبها. وفي المقابل، تتولى أجهزة خاصة تبريد أنابيب"هادرون"العملاقة. إذ تحتاج التجربة إلى تبريد يصل إلى 271 درجة مئوية تحت الصفر. ويفترض ان تأتي البروده من 120 طناً من غاز الهيليوم السائل، التي تسير بموازاة المُعجّل الضخم، يدفعها جهاز يعمل بضغط مرتفع قوّته 13 ألف أمبير. وتحوّل تلك الغازات المندفعة بسرعة هائلة، أنابيب"هادرون"إلى أحد أكثر النقاط برودة في المجرّة أيضاً! ويضمن هذا التناقض أن تسير التجربة في أمان كبير. وكما بات معروفاً، ستتيح التجربة لعلماء الذرّة التثبّت من معارفهم حول تركيب الذرّة. كما تفتح باباً لمعرفة أشياء يحاولون سبر غورها مثل"المادة السوداء"الغامضة التي يُعتقد أنها تملأ أرجاء الكون، فكأنها غمامة لا تُرى لكنها تلف الكون كلياً وتتداخل مع مواده وتراكيبه كافة. ولا ينطبق هذا الوصف مع المخاوف غير المبرّرة التي ما زالت تتناثر في وسائل الإعلام عند الحديث عن"مُصادِم هادرون الكبير". وبحسب تعبير روبرت جونسون، وهو فيزيائي من معهد"سانتا كروز"للفيزياء الجزيئية،"لم يكن هناك أبداً أي خطر من المسرّع، لكن هذا لم يمنع الناس من التخوّف من احتمال الكارثة". والمعلوم أن جونسون عضو في الفريق العلمي في وكالة"ناسا"الذي يدير التلسكوب الفضائي"فيرمي"الذي يعمل بأشعة"غاما". وأُطلق التسلكوب لدراسة انبعاثات أشعة"غاما"التي تصدر من منابع فلكية متعددة، بما فيها ثقوب سود متبخرة وفقاً لنظرية حديثة لعالِم الفلك البريطاني المقعد ستيفن هوكنغ. والحال أن هناك أسباباً عدة تحول دون نهاية العالم في مثل اختبار"هادرون الكبير"وتجعله عاجزاً عن"اجتراح"مثل هذه الكارثة. فمن الناحية العلمية، يستطيع المُصادِم المذكور توليد ثقوب سود صغيرة جداً وبأحجام ميكروسكوبية. وتسير التجربة بطريقة متدرّجة. فعند بداية التجربة، يعمل فيزيائيو"المركز الأوروبي للأبحاث النووية"على تحضير الجهاز عملانياً قبل الإختبار الفعلي،"كما لو أنك تسخّن محرّك سيارتك من دون الإنطلاق بها"، بحسب جونسون. وحتى عندما تصل التجربة الى ذروتها، فإن التصادم المتوقع بين البروتونات المُسرّعة، يمكن أن يولّد طاقة هائلة قرابة ألف بليون إلكترون فولت، لكنها لا تكفي إلا لصنع ثقب أسود ميكروسكوبي. وإذا حدث ذلك الأمر، فإن ولادة ثقب أسود متناهي الصغر سيعطي أختصاصيي فيزياء الذرات الدليل الاختباري الأول الحاسم لدعم نظرية رائعة في علم الجزيئات الأولية، تحمل اسم النظرية الوترية للمادة"سترنغ ثيوري"String Theory التي لم تحظ بأي إثبات اختباري حتى الآن. في النظرية الوترية، تتشكّل الإلكترونات والبروتونات والكواركات وبقية الجسيمات الأولية من اهتزازات مختلفة لأوتار متناهية في الصغر ذات عشرة أبعاد، تسعة منها تتصل بالمكان، والعاشر بُعد زماني. وإذا كنا لا نستطيع أن نتخيّل سوى ثلاثة أبعاد للمكان، فإن ذلك يرجع لأن الستة المتبقية"تتقوقع"على مستوىً متناهٍ في الصغر. "أشعة هوكنغ"تُنير الثقوب السود بعض الفيزيائيين ينظر إلى النظرية الوترية كحل رياضي رائع للأسئلة التي لا تلاقي جواباً في الوضع الراهن لعلم الفيزياء النظرية، خصوصاً مسألة دمج قوة الجاذبية مع بقية القوى الأخرى في الطبيعة. ففي النموذج المعتمد الواسع القبول في فيزياء الذرات، لا يحسب للجاذبية أي حساب داخل فضاء الذرّة، ولذا لا يتوقع من مُصادِم الهادرونات الكبير توليد نقطة شديدة الجذب مثل الثقب الأسود. والمعلوم أن كثيرين من الفيزيائيين أبدوا شكوكاً في صحة"النظرية الوترية"لجسيمات المادة. لكن لنفترض جدلاً أنها صحيحة فعلاً في شكل حاسم، فماذا سيحدث حين يستولد مُصادِم الهادرون الكبير ثقباً أسود مُتناهي الصغر، وفقاً للنظرية الوترية؟ لا يتردّد جونسون في إعطاء إجابة مثيرة:"ليس بالشيء الكثير"! فحتى لو"عاش"الثقب الأسود اكثر من جزء من الثانية وهو أمر مستبعد، فسيندفع منساباً في الفضاء بسرعة تقارب سرعة الضوء. وبما أن حجم ذلك الثقب الأسود سيكون أصغر من واحد بالألف من حجم البروتون، ستكون قوته ضعيفة جداً ما يجعله ينزلق بسهولة عبر الصخور الصلبة، من دون التصادم مع أي من مكوّناتها. فعلى المستوى المتناهي الصغر للأجسام الذرية، لا تمثل الصخور الصلبة التي نفترض ان فيها كثافة عالية من الكتلة، سوى عوالم من فراغ. وفي العناصر التي تتشكل الأجسام منها، هناك مسافات كبيرة بين الذرات، وحتى في الذرة نفسها هناك هوّة سحيقة بين النواة والإلكترونات التي تدور حولها تفوق حجم النواة بألفي مرّة. وهكذا فإن ثقباً أسود ميكروسكوبياً يمكنه اختراق كوكب الأرض والمرور بقلبه المشتعل، من دون الاصطدام مع أي ذرة، وبالتالي من دون التسبب بأي خراب. وهكذا، فإن أكثر الاحتمالات ترجيجاً، بالنسبة الى مسألة ولادة ثقب أسود ميكروسكوبي داخل"مُصادِم هادرون"، هو أن يتوه ذلك الثقب في الفضاء المحيط بالأرض، حيث تنعدم حظوظ ملامسة أي مادة تغذّيه وتكبّره. والنتيجة؟ أول شيء يمكن الثقب الأسود الصغير أن يعمله هو مغادرة الكوكب بأمان. لكن هناك أسباباً أخرى وأقوى تجعل العلماء يستبعدون أن يتسبّب"مُصادِم هادرون الكبير"بأي تهديد للأرض. يتمثّل أول هذه الأسباب في إن أي ثقب أسود يولد في"المُصادِم الكبير"سيتبخر فوراً وتلقائياً قبل أن يستطيع الذهاب بعيداً في سفره، كما يؤكد معظم العلماء. وفي هذا الاطار، سبق لعالِم الفيزياء ستيفن هوكنغ أن نشر كتاباً بعنوان:"تاريخ موجز للزمان"A Brief History of Time، وبيّن فيه أن الثقوب السود تشعّ بالطاقة، على عكس ما يوحي به ظاهر اسمها. وقد سميت الطاقة تلك باسمه"أشعة هوكنغ". وبسبب هذا الفقدان المستمر للطاقة، فإن الثقوب السود"تبخّر"المادة التي تبتلعها، أي تحولها إلى طاقة مُشعّة. وكلما كان الثقب الأسود صغيراً، كانت"أشعة هوكنغ"أكبر، وبالتالي يتلاشى الثقب الأسود أسرع. وهكذا، فإن ثقباً أسود أصغر بألف مرة من البروتون سيختفي بصورة فورية تقريباً، وبنبضة اشعة سريعة. وعلى رغم متانة الأسس النظرية لمقولات هوكنغ، التي ترتكز على النظرية الوترية وعلى حسن فهم مبادئ الميكانيكا الكمومية Quantum Physics والفيزياء الذرية، فإن"اشعة هوكنغ"لم تُرصد في صورة مباشرة حتى الآن. وعموماً، يثق علماء الفيزياء الذرية بأن أي ثقب أسود يولّده"مُصادِم هادرون الكبير"لن يشكل أي تهديد لا على مركز"سيرن"ولا على سويسرا ولا على الكوكب. لكن كيف بإمكانهم حسم ذلك؟ لأن دليلا ًآخر يمثل أمامهم: الإشعاع الكوني. والمعلوم أن اشعاعات كونية عالية الطاقة تضرب غلاف الأرض آلاف المرات يومياً، وتصطدم بجزيئات الهواء بطاقة عالية تفوق بعشرين مرة على الأقل طاقة أي اصطدام يمكن أن يحدث في مُصادِم الهادرون الكبير. وهكذا، فإن كان هذا المسرّع المُصادِم في"سيرن"يستطيع توليد ثقب أسود قادر على ابتلاع الأرض، فإن الأشعة الكونية كانت تمكنت من ذلك بلايين المرات خلال تاريخ كوكب الأرض الطويل. * أستاذ في الجامعة اللبنانية نشر في العدد: 16685 ت.م: 09-12-2008 ص: 25 ط: الرياض