كان على العام 2008 أن يكون عام الشاعر المصري عبدالرحمن شكري، ليس لأنه يصادف الذكرى الخمسين لرحيله فقط، بل لأن هذا الشاعر النهضوي الكبير يستحق فعلاً أن يخرج من الظل الذي رقد فيه طويلاً، وأن يستعيد موقعه الريادي الذي سُلب منه أو الذي سلبه منه بالأحرى شعراء عاصروه وهم دونه إبداعاً وموهبة. والسؤال الذي لا جواب له والذي لا بدّ من طرحه في الذكرى الخمسين لرحيل عبدالرحمن شكري هو: ما سرّ هذا الظلم الذي حلّ بهذا الشاعر الفريد والمجدد وأبعده عن الأضواء وكاد يحذفه من المشهد الشعري العربي النهضوي؟ ولا مبالغة في القول إن عبدالرحمن شكري الذي يكاد يكون شبه منسيّ والذي قصّر النقاد العرب في حقه هو في طليعة شعراء النهضة الثانية، ولو لم يحظ بلقب"أمير الشعراء"وسواه. ومثل هذا"الحكم"لا ينتقص من شعرية الروّاد النهضويين مثل حافظ ابراهيم"المقلّد الواعي"وأحمد شوقي"المقلّد المجدد"وخليل مطران ومعروف الرصافي وسواهم. ولئن كان شكري واحداً من شعراء"الديوان"فهو استطاع أن يكون على رأس هذه الجماعة التي ضمّت عباس محمود العقاد وابراهيم المازني، بل إنه تخطى الجماعة هذه وشاعريها اللذين لم يبقَ منهما إلا صنيعهما النثري وبات شعرهما طيّ الأدراج. وكان شعار جماعة"الديوان"قد استُلّ أصلاً من احدى قصائد شكري ألا يا طائر الفردوس إن الشعر وجدان لكن الشاعرين"الديوانيين"لم يوفراه لاحقاً من نقدهما القاسي بعدما كانا قد كالا له المديح سابقاً. وقد أخذ المازني عليه"دلائل الاضطراب النفسي"متهماً إياه بالجنون وواصفاً جهوده ب"العقيمة". وقد تمكنا من عزله وإيقاعه في"المصير الفاجع"كما قيل حينذاك فانزوى واعتكف على نفسه ولم يصدر أي ديوان بعد العام 1919 وهو تاريخ صدور ديوانه الأخير"أزهار الخريف". واللافت حقاً أن عمر شكري الشعري يمكن اختصاره في عشرة أعوام، تبدأ في 1909 عندما أصدر ديوانه الأول"ضوء الفجر"وتنتهي في ذلك العام الذي انسحب خلاله من المعترك الشعري. إلا أن انسحابه لم يعن انقطاعاً نهائياً عن الشعر وإن كتب القليل منه، وقد جُمع ما كتبه في ديوان صدر بعد رحيله وكان الثامن والأخير. في هذه الاعوام العشر استطاع شكري أن ينجز صنيعه الشعري الفريد الذي استهله في الثالثة والعشرين من عمره وأنهاه في الثالثة والثلاثين. وهذا يعني أن شكري أنجز مشروعه في مقتبل شبابه. ولعل"تهمة"الاضطراب النفسي التي ألقاها عليه المازني كانت احدى الميزات التي وسمت شعره والتجربة التي خاضها وجدد عبرها الشعر العربي. وقد عرف بطبعه المتوجس الذي يسيء الظن بالحياة نفسها، وبنزعته التشاؤمية التي جعلته قريباً من أبي العلاء المعري، وبولعه بالمجهول الذي أيقظه فيه الشعراء الرومنطيقيون البريطانيون. إلا أن شاعري"الديوان"اللذين لم يستطيعا أن يتجاهلا استاذيته اعترفا غداة رحيله بريادته، وقد سبقهما هو فعلاً في الابداع والمعرفة وفي تبني الفكر الجديد والانفتاح على الحركة الشعرية العالمية. لقد اكتشفا غداة رحيله أنه أصبح في الطليعة فيما هما وراءه، مثلما سيصبح وراءه شعراء تقدموه أو ظنوا أنهم تقدموه. فالعقاد كتب عنه"مستغفراً":"لم أعرف قبله ولا بعده أحداً من شعرائنا أوسع منه اطلاعاً على أدب اللغة العربية وأدب اللغة الانكليزية". ووصف شعره قائلاً:"ينبسط شعره انبساط البحر في عمق وسعة وسكون". أما المازني الذي لم ينسَ الفضيحة التي أثارها شكري في حقه عندما كشف سرقاته الشعرية وردها الى أصحابها من أمثال الانكليزي شلي والألماني هايني، فيعترف جهاراً: صار شكري استاذي وهو زميلي". وإن استطاع شاعرا"الديوان"أن يعزلا صاحب"أناشيد الصبا"الذي لم يكن يوماً شاعراً وطنياً ولا منبرياً، فهما لم يتمكنا من انكار ريادته. لكن هذه العزلة أو هذا"العزل"ما لبث أن عمّ حياة شكري وابداعه، على رغم اقبال بعض النقاد الكبار على تناوله موفين إياه حقه. لكنّ ما يؤلم في الأمر أن ما من ناقد وضع دراسة شاملة عنه مثلما وضعت دراسات عن شعراء عاصروه وكانوا دون مرتبته. وقد عمد بعض النقاد المؤرخين الى حذف اسمه سهواً أو جهلاً، ولم يأخذوه في الحسبان. حتى ديوانه الكامل لم تصدر منه حديثاً إلا طبعة واحدة نشرها المجلس الأعلى للثقافة في مصر عام 2000 في عهدة الناقد جابر عصفور، ولولا هذه الطبعة لبات الديوان مفقوداً، مع أن دواوين معظم الشعراء النهضويين متوافرة في طبعات عربية. بين المعري والرومنطيقية عبدالرحمن شكري شاعر كبير من غير منازع، والدواوين التي أصدرها في ريعان الشباب كانت كافية فعلاً لترسيخ تجربته العميقة التي يتقاطع فيها الشعر العربي القديم والشعر العالمي المعاصر. فهذا الشاعر الذي أجاد الانكليزية ودرس في احدى الجامعات البريطانية أطلّ على الحركات الشعرية العالمية القديمة والحديثة، مثلما قرأ التراث العربي مسحوراً بالمعري وأبي تمام والشريف الرضي وابن المقفع، قرأ شكسبير وبايرون وغوته وشلي وكيتس وسواهم. وقد كتب مقالات كثيرة عن شعراء أعلام وناثرين أعلام، عرباً وأجانب. فهو كان ابن عصره كما كان ابن العصور القديمة، وقد حرّر الشعر النهضوي من وطأة"المناسبات"على اختلافها ومن ربقة"الأغراض"الجاهزة مسبغاً على الشعر مهمة الكشف عن حالات النفس الانسانية، وعن الوجدان العميق الذي"يحكم"الكائن. وابتعد عن مضارب"الصنعة"التي أرهقت اللغة الشعرية، مركزاً على الموقف الانفعالي المتجلي في شفافية اللغة وانسيابها وعذوبتها. كان شكري شاعراً"مطبوعاً"ولكن في المفهوم الوجداني الصرف، ولم يخل طبعه من السوداوية والبعد الميتافيزيقي، هو الذي راح يحاور في قصائده، الذات والكون، مفتوناً بالمجهول الذي يلتمع أمامه وبالأفق اللامحدود المفتوح على الصدفة. وله في هذا الصدد بيت شهير يقول فيه:"أقضي حياتي بنفس لست أعرفها/ وحولي الكون لم تُدرك مجاليه". كتب شكري ما يسميه محمد مندور"شعر التأملات النفسية أو الاستبطان الذاتي". وكان شعره كما قال فيه شوقي ضيف"ذاتياً، كامل الذاتية، ليس شعراً لمجتمع ولا شعراً غيرياً، إنما هو حديث نفس تترجم عن دخائلها ووساوسها وآلامها وأحلامها كما تترجم عن الكون وطلاسمه وألغازه". وقد ابتعد شكري فعلاً عن منابت الشعر"الظرفي"فلم يكتب في المديح ولا في الهجاء ولا في الاحداث السياسية كما فعل خليل مطران وأحمد شوقي الذي كتب نحو عشر قصائد عن"بنك مصر"، ولا أحد يدري كيف يمكن شاعراً أن يكتب في هذا الموضوع النافل. حتى المراثي القليلة التي كتبها شكري في أعلام مثل مصطفى كامل وقاسم أمين ومحمد عبده لم تكن"مناسباتية"واستعراضية بقدر ما كانت قصائد"رمزية"تستوحي التجارب التي خاضها هؤلاء والصراع الأزلي بين الحياة والموت. وليس مستغرباً أن يخلو ديوان شكري من أي قصيدة"غرضية"أو منبرية أو"مناسباتية"، فيما يرزح ديوانا شوقي ومطران تحت وطأة قصائد"الأغراض"و"المناسبات"التي تحتل معظم صنيعهما. وصفت سهير القلماوي عبدالرحمن شكري ب"الشاعر القلق في مرحلة مضطربة"ووصف شوقي ضيف شعره ب"القائم"و"المجلل بالسواد والكآبة". هذا القلق وهذه القتامة والكآبة تظهر بجلاء في الكثير من قصائد شكري، الشاعر المتشائم الذي يلتقي فيه قنوط أبي العلاء وسوداوية الرومنطيقيين الانكليز والألمان. فهو الذي سعى الى"البحث عن حياة أكمل من هذه الحياة"بحسب تعبيره، كان يصاب بالخيبة جراء عجزه عن الوصول الى تلك"الحياة". إنها الخيبة الرومنطيقية بامتياز تدفع به الى رثاء العالم والى رثاء نفسه من خلال العالم. يقول شكري:"ما لحداد الليل لم يُخلع/ وما لعين الأفق لم تهجع". وفي قصيدة أخرى:"وممات المرء رزء/ وحياة المرء ذله". ويقول في السياق نفسه:"إذا كان في موت الفتى راحة له/ فأي رجاء في الحياة يريده". ولا يتوانى عن إعلان تبرمه بالحياة وشعوره بالملل أو السأم العميق ذي السمة البودليرية، ولا ينفك يجاهر بالشك معتبراً إياه"غاية الايمان"و"مشعال الحكيم". وإذا"العيش"في نظره"ساعة ثم تنقضي"وإذا"بيوت العالمين قبور". لعل أحوال التشاؤم والقنوط والشك هي التي حفزت عبدالرحمن شكري على الخروج عن الثوابت والأغراض التي طالما حكمت الشعر العربي في مراحله السابقة. فالشاعر كما يتجلى لديه لم يعد"نديماً"ولا"حلية"بل هو"رسول الطبيعة، ترسله مزوداً بالنغمات العذاب، كي يصقل بها النفوس ويحركها ويزيدها نوراً وناراً". هكذا يتكلم عبدالرحمن شكري عن"شخص"الشاعر ورسالته، وقد حمّل المقدمات التي وضعها لدواوينه الكثير من آرائه ونظرياته الشعرية حتى غدت بمثابة"بيانات"شعرية بذاتها. ومن تلك الآراء مثلاً:"قلب الشاعر مرآة الكون"أو:"لا ينظم الشاعر الكبير إلا في نوبات انفعال عصبي"أو:"الكون آية شاعر". أما الشعر في نظره فهو"أبدي مثل نظرة الشاعر"وهو"يلج الى صميم النفس فينزع عنها غطاءها". ويقول شكري أيضاً:"كل شيء في الوجود قصيدة من قصائد الله والشاعر أبلغ قصائده". هذه الآراء لم تكن بغريبة عن الصنيع الشعري نفسه ولا سابقة له أو تابعة، بل هي نابعة من صميم التجربة التي عاشها الشاعر وكتبها. فها هو يقول في احدى قصائده:"وفي نفسي من الأبد اتساق"ولعل هذا الاتساق الناجم عن"الأبد"يذكر بالاتساق الذي أسبغه رامبو على الأبد واصفاً إياه بامتزاج البحر بالشمس. لا تكمن فرادة عبدالرحمن شكري وريادته فقط في ما حمل شعره من أبعاد ورؤى وانفعالات وهواجس داخلية، بل أيضاً في اللغة التي كتب بها قصائده، وهي لغة سيالة، عذبة، غاية في البساطة والجودة، شديدة الجزالة والمرونة، وقد جمع فيها بين المتانة والسهولة مبتعداً عن التكلف والتصنع اللذين راجا كثيراً في عصر الانحطاط والمقلب الأول لعصر النهضة. وبدت لغته ابنة عصرها، ذات نزعة جمالية لا تبغي الجمال للجمال أو الفن للفن كما يقول البرناسيون بل هي تهدف الى بلورة"الأغوار الدفينة"و"المسارب الملتوية"و"النوازع"كما يعبر الشاعر نفسه. رحل عبدالرحمن شكري عام 1958 قبل خمسين عاماً وكان في الثانية والسبعين من عمره وكتب في وصيته:"لا تدفنوني في حجرة تقفل عليّ كالسجن، ولكن في قبر يُهال عليه التراب". هذه وصية رومنطيقية لشاعر خبر الطبيعة في معانيها الشاسعة. وكان قبيل رحيله، يعيش في حال من السكينة والتأمل، مبتعداً عن الصخب الاعلامي والضوضاء. وقد رفض ان تقام له حفلة تكريم عندما بلغ السبعين من عمره ايماناً منه بأن الشاعر لا يحتاج الى مثل هذه الظواهر العابرة. رحل عبدالرحمن شكري في السبعين، لكنه أنهى"حرفة"الشعر في الثلاثين من عمره ورسّخ عالمه الشعري ومدرسته في ذلك العمر الفتي. وفي هذه الظاهرة شيء من الغرائبي أو العجائبي الذي يزيد من فرادة عبدالرحمن شكري، الشاعر النهضوي، الثائر والمجدد الذي كان خير من مهّد لحداثة الشعر العربي.