حين أفحص الظروف التي دعتني الى الكتابة أقع على الحرب. والحرب هذه ليست الوقت التاريخي الذي يهز الوجدان على نحو رواية حملة فرنسا من جهتي ميدان المعركة في فالمي، غوته من الجهة الألمانية وجدي البعيد فرنسوا لوكليزيو من جهة الجيش الثوري. والأمر كان، على ما أحسب، باهراً وعظيماً. وهذا ليس شأن حربي أنا، حرب المدنيين، وعلى وجه التخصيص حرب الأولاد الفتيان. ولم تبد لي الحرب لحظة واحدة تاريخية. فجعنا وخفنا وغلبنا البرد. وهذا كل ما في الأمر. وأذكر أنني رأيت قوات الماريشال رومل تمر تحت نافذتي وهي تصعد جبال الألب بحثاً عن ممر الى شمال إيطاليا والنمسا. فلم يخلف هذا فيَّ أثراً بالغاً. وعلى خلاف الذكرى العابرة هذه أذكر أنني، غداة الحرب، لم يسعني الحصول على شيء، فافتقدت أول ما افتقدت ما أكتب به وما أقرأه. فلا الورق كان في المتناول، ولا ريشة الحبر. فاضطررت الى الرسم والكتابة على ظهر قسائم التقنين، واستعملت قلم نجار أزرق وأحمر. وبقي من هذا ميل الى مساند الكتابة الغليظة والى الأقلام العادية. ومحل كتب الأولاد قرأت قواميس جدتي. فكانت بداية رائعة دخلت منها الى تعرف العالم وتصفحه، والى الرحلة على غير هدى والحلم بإزاء اللوحات والخرائط وجداول الكلمات الغريبة. وأول كتاب كتبته، في السادسة أو السابعة من العمر، وسمته بعنوان"الإبحار في الكرة الأرضية". وتبعه كتاب آخر هو حكاية نسبتها الى نورس .... وكانت جدتي حكواتية لا تبارى. فوقفت على ساعات بعد الظهر الطويلة قصها الحكايات المبتكرة التي قصتها علي. ومعظمها كان مسرحه غابة، قد تكون أفريقية، أو ربما هي غابة في جزيرة موريشيوس. وبطلها قرد ماكر وشاطر يحسن على الدوام التخلص من الأوضاع الحرجة التي يقع فيها. وسافرت، فيما بعد الى أفريقيا وأقمت بها، وشاهدت بأم العين الغابة الحقيقية، ولم أرَ حيوانات فيها. وأسمعني إداري محلي، من قرية أوبودو على تخوم الكاميرون، هرج قردة الغوريلا على رابية قريبة وهي تلطم صدورها. ولم أعد من الرحلة هذه، والإقامة بنيجيريا، حيث كان أبي طبيباً برياً، بمادة روايات لاحقة، بل عدت بما يشبه شخصية ثانية، حالمة ومنبهرة بالواقع معاً، حسمتني عمري كله. وكانت بعداً متناقضاً، والغرابة التي شعرت بها في بعض الأوقات شعوراً أليماً. واقتضى فهمي معنى هذا، والحياة على ما هي عليه تهادياً وبطئاً، معظم سنّي عمري .... وقبيل إبلاغي خبر الجائزة التي أجازتني بها، لدهشتي، الأكاديمية السويدية، كنت أقرأ في كتاب صغير كتبه الكاتب السويدي ستيغ داغيرمان"تسلط الأسى"، وأستعد للمجيء الى السويد مستجيباً دعوة رابطة أصدقاء داغيرمان. واستوقفتني في ما كنت أقرأ فقرة خلت أنها تكلمني، وفيها:"كيف يجوز حسبان أن لا شيء يتقدم الأدب مكانة، من وجه، فيما يستحيل على المرء ألا يرى، من وجه آخر، أناساً يكافحون الجوع، مضطرين الى اعلاء شأن مرتبهم آخر الشهر فوق أي شأن آخر؟ فالكاتب لا يتخلص من مفارقة جديدة، فهو شاء ألا يكتب الا للجوعى ويرى ان وحدهم من يملكون فوق حاجتهم الى المأكل ويتسع وقتهم للانتباه الى وجوده"الكاتب والضمير. و"غابة المفارقات"على ما سماها داغيرمان، هي على وجه الدقة مضمار الكتابة، ويجدر بصاحب الفن ألا يحاول الهرب منه، وعليه أن"ينيخ رجله"به، ويتعرف الى أدق تفاصيله، ويجوس شعابه، فيسمي كل شجرة باسمها. وقد لا يكون هذا مقاماً ممتعاً في الأوقات كلها. فمن حسب نفسه آمناً، ومن خالت أنها تسر الى صفحتها اسرارها الى صديقة حميمة ومؤاسية، إذا بهما إزاء الواقع وفي مقابلته، فاعلين وليس مراقبين وحسب. وعليهما الانحياز الى جهة ومعسكر، واحتساب مسافاتهما. فشيشرون ورابليه وكوندورسيه وروسو ومدام دوستال، وقريباً منا سولجنستين، أو هوانغ سيوك - يونغ، وعبداللطيف اللعبي وميلان كونديرا، اضطروا الى المشي على درب المنفى. وأنا أرى أن حظر الإقامة والعيش بمكان اختاره المرء غير جائز على قدر الحرمان من الحرية. وتترتب على حرية الرواح والمجيء، وعلى امتيازها، مفارقة. أوليس هذا الرجل وهذه المرأة المنصرفان الى الكتابة، والى ابتداع احلامهما، جزءاً من صفوة قليلة وسعيدة؟ فلنتخيل حالاً قصية ورهيبة هي تلك التي تكابدها كثرة أهل كوكبنا. وكابدها في زمن أرسطو وتولستوي من لا صفة لهم أهل الصفة أقنان الارض والخدم ودهماء أوروبا في العصر الوسيط والشعوب المسبية في عصر الأنوار على ساحل افريقيا، والمطروحة للبيع في المينا وزنجبار وغوريا والذين حرموا الحق في القول، وينتحون ناحية على حدة من الكلام، بينما أنا أكلمكم وأخاطبكم. فتسكنني خاطرة داغيرمان المتشائمة، على خلاف تقرير غرامشي النضالي، أو رهان سارتر البارد. فمصدر الضيق والقلق اللذين يستشعرهما واحدنا هو كون الأدب بعضاً من رياش طبقة غالبة، واستقاؤه من معين افكار وصور ليست في متناول الكثرة أو عامة الناس. وأنا أكلم من يقرأون ويكتبون. فقد تحدونا الرغبة في حمل القول الى المنفيين منه، ودعوتهم دعوة كريمة الى مائدة الثقافة. فهل هذا عصي فعلاً؟ فالحق أن الشعوب غير الكاتبة، على ما سماها الأناسون، بلغت من طريق الاناشيد والأساطير تمام العبارة والأداء. فلماذا يستحيل هذا في مجتمعنا المصنع؟ وهل علينا ابتكار الثقافة ابتكاراً جديداً؟ وهل علينا العودة الى تفاهم مباشر ومن غير وسيط؟ وقد نحسب أن السينما تضطلع بهذا الدور اليوم، وربما الاغنية الشعبية، الموقعة والمقفاة والراقصة. وهي قد تكون حال الجاز، أو الكاليبسو أو المالايو أو السيغا في بلاد أخرى ... وأود أن أتكلم على الغابة. فكناية ستيغ داغيرمان تتردد أصداؤها في ذاكرتي. والغابة، شأن الصحراء وعرض البحر، ليس ثمة ما يُستدل به فيها. وأدين الى الغابة بأعمق شعور أدبي اعتراني في سن الرشد. فقبل 30 عاماً، في منطقة بأميركا الوسطى تسمى إل تابون دي داريين الفلينة، والسبب في تسميتها هذه هي انقطاع الطريقة العابرة أميركا، من ألاسكا الى طرف أرض النار، عندها. وهي تقع على مضيق بناما. وهذا الموضع من المضيق تكسوه غابة تُمطرها السماء مطراً كثيفاً. فيستحيل السفر من غير طريق الملاحة على الأنهر بمراكب الصيد المحلية. ويقطن الغابة قوم هنود أميركيون، ينقسمون قبيلين: الامبيراس والووفاناس. والقومان من أسرة لغوية واحدة هي جي - بانو - كاريب. وأنا مررت بالموضع هذا صدفة، فعزمت على البقاء بعض الوقت منبهراً بقاطنيه وأهله. فرجعت مرات، وأقمت بين ظهرانيهم ثلاثة أعوام، على تقطع. وفي الأثناء لم أفعل غير التنقل، والرواح من بيت الى بيت. فالقوم رفضوا الاجتماع في قرى، وتعلم العيش على مثال وإيقاع لم آلفهما من قبل وهذه الغابة، شأن الغابات الأخرى، موحشة، وكان يفترض في قاطنها احتساب الأخطار التي تتهدده كلها، وإعداد وسائل مداراتها والتغلب عليها كذلك. وفي أثناء إقامتي، لم أنصرف الى الكتابة إلا قليلاً. ولكن عثراتي كانت تضحك مضيفيّ كثيراً. وآمل بأن يكون إضحاكي إياهم لقاء بعض ثمن الحكمة التي تعلمتها منهم. ونازع القوم الى الفوضى، وازدراؤهم السلطة، صرفاهم عن الفن. فالرجال والنساء هناك يرسمون التصاوير على أجسادهم بدل اللوحات، ويأنفون عموماً من صنع شيء يبقى على مر الوقت. وبعدها، سمعت أساطيرهم. وجاءتني الأساطير متواترة، كل ليلة تقريباً. فكانت أصوات الحكواتية والحكواتيات تتلو الحكايات والأخبار على نحو ما تخبر عن وقائع حياة كل يوم. وكان الحكواتي ينشد بصوت حاد، ويضرب صدره، ويحاكي وجهه عبارات أبطاله وأهواءهم وقلقهم. وهذا أقرب الى الرواية منه الى الأسطورة. وذات يوم جاءت شابة اسمها إلفيرا. وكان لحكاياتها، وهي ترويها بنبرة فريدة وتوقّع ما تروي بالضرب على صدرها وعقودها الثقيلة فينير وجهها وعينيها بريق الاستحواذ، كان لحكاياتها وقع قوي وأخاذ على السامعين. وكانت إلفيرا لا تقتصر على الموضوعات التي ترويها الأساطير، مثل ابتكار التبغ والتوأمين في بدء الخليقة وافتراق المخلوقات منذ ليل الزمن، فتزيد حكاياتها وأخبارها، عشقها وترحالها وخياناتها وآلامها ومسراتها وغيرتها وخوفها الهرم والموت. فكانت تتردد في إنشادها قوة الطبيعة الحق. والمفارقة أن الفن انتخب هذا المكان النائي مضماراً تجلى فيه. فعلى ما قال رئيس قبيلة هنود قبيلة لومني الرئيس الأميركي أواخر القرن التاسع عشر:"فلربما نحن إخوة...". عن جان - ماري غوستاف لوكليزيو حائز نوبل الآداب 2008،"نوبل فاندايشن"، 7 /12/2008 نشر في العدد: 16693 ت.م: 17-12-2008 ص: 23 ط: الرياض