يحيي "متحف الفن الحديث - باريس" ذكرى معلم الرسم الحر والألوان المتوسطية والحياة الحبورة : "راؤول دوفي". يعلن الناقد بيير ديسكارغ بهذه المناسبة أنه"بعد أن مضى أكثر من خمسين سنة على غياب دوفي، حان الوقت لإعادة الاعتبار لعبقريته". توفي عن 75 سنو مقعداً على كرسي متحرك، وبغياب مجحف عن أضواء الشهرة، في ما عدا حصوله في أواخر حياته على الجائزة الكبرى للتصوير في"البينالي العالمي للفن التشكيلي"بعد سابقيه جورج براك وهنري ماتيس، لعل أبرز أعماله الباقية والتي كادت تهدم قبل إنقاذها، الرسوم الجدارية:"ساحرة الكهرباء"على مئات الأمتار المربعة والمحفوظة الى اليوم على جدران المتحف نفسه، كانت أنجزت عام 1937 بتكليف من شركة الكهرباء العامة، تعتبر من أجمل المزارات والشواهد التشكيلية والسياحية في تراث العاصمة الفرنسية. يصور فيها مشاهد وفلاسفة وعلماء لهم علاقة بتاريخ اكتشاف الطاقة الكهربائية، هو ما يناسب أسلوبه النوراني المشع الحافل بالألوان الموسيقية المغتبطة والرسم الحر الذي يعربد خارج مساحة اللون، ليعطي إدراكاً مركباً يتحالف فيه الخط واللون وبقع الضوء، يعتمد منهجه الأقوى شخصية ضمن مجموعة"الوحشيين"على رهافة التعديل الحر والدؤوب والإلغاء والبناء للون والخط وصولاً حتى الدرجة القصوى من قزحية اللون وعاطفيته الغنّاء المتقلبة من حال ومقام الى آخرين. ويعتبر أول من بشّر بطزاجة"عدم اكتمال"اللوحة، واقتناص لحظتها الانفعالية المنفلتة من التأنق والمحسنات البديعية، حتى تحولت هذه الخصيصة الى قيمة نقدية أثرت في كثر، ومنهم عدد من الفنانين العرب، ابتداء من أقطاب مدرسة الإسكندرية الأخوان وانلي وانتهاء بالسوري زيات مروراً بالمعلم اللبناني أمين الباشا وسواهم. درج على معالجة الموضوعات المشبعة بالشمس المتوسطية بما يناظر تأثره مع نظيره هنري ماتيس بالأرابسك وموسيقية اللون العربي الإسلامي، محافظاً دوماً على إشعاع الأرضية البيضاء للقماشة والورق وضمن حساسية الرسم السريع أو التحضيري الكروكي، عرف بمناظر منطقته التي يعشقها في مقاطعة النورماندي الشمالية ومقاطعة البروفانس الرديفة، مشاهد مزدحمة بالرسم السريع للأشخاص أو الأحصنة أو المراكب المرصودة في الساحات الرحبة من الأعلى، وهنا نعثر على استعارة منظور الفن الصيني - الياباني مثل فناني عصره. موضوعات متزاحمة العناصر الحية والجامدة والنباتية مثل الاستعراضات والمهرجانات والحفلات الصاخبة المرحة ومنها السيرك وسباق الأحصنة وعروض الأزياء حتى وسمه النقد بفنان الأعاجيب والإدهاشات والمفاجآت"، هي التي تجرى في شموس السواحل المتوسطية. دوفي له خط تفاؤلي أصيل مناقض لكآبة تعبيرية ما بعد الحرب العالمية الثانية ويعلن اعتراضه على أي فن جنائزي نوّاح، فاللوحة بالنسبة إليه أداة تطهر طوباوية من مآسي الواقع ودنسه البهيمي وهمجية العسكريتاريا. يترسخ هذا الإحساس المقاوم لديه بارتباط موضوعاته بفراديس العوالم الموسيقية، من اللوحات المعروضة:"تحية الى موزار"وأخرى الى باخ ناهيك عن مجموعة الكمان الأحمر والكارغو الأسود، ويظهر التأثير الجلي للوحته"الكمان"على أعمال نيكولا دوستائيل الموسيقية المتأخرة. كما زهد في أعماله الأخيرة مقتصراً على صبغ الآلات الموسيقية مثل الكلافيسان والبيانو بالأزرق استشرافاً ل"مونوكرومية"إيف كلاين. لو تابعنا بحياد حضور تأثيره لعرفنا حجم الإجحاف في حقه، والذي يرجع في شكل أساس الى سوء فهم تعددية وسائطه الأدائية، من اللوحة والرسوم المائية الى التصوير الجداري ومن تصاميم الأقمشة ورسوم أوراق الجدران وغيرها أقام معرضاً لتصاميم السجاد عام 1948 في غالوري كاري، وبسبب وجود محترفه فترة في"حي البيغال"المبتذل، وقلده عدد من الهواة الاستهلاكيين، ابتدأ سوء الفهم النقدي من اختلاط تفاؤليته الزخرفية الديكوراتيف بأصالة تجديداته التشكيلية. ويستمر المعرض حتى منتصف كانون الثاني يناير 2009.