يملك نيكولا دو ستائيل أهمية مركزية في خمسينات الحركات الباريسية. هي أهمية تنازع قوة تأثير معاصريه بيكاسو وجاره براك. بل قد يتفوّق عليهما في عمق تأثيره الأسلوبي على جيل الفنانين الشباب خصوصاً في المدرسة العليا للفنون آنذاك. وذلك باعتباره النموذج الوجودي الأول في التصوير، والذي يناظر الروائي ألبير كامو، خصوصاً أنه قضى بالعبثية التراجيدية نفسها، منتحراً بإلقاء نفسه في هاوية النافذة التي تأوي زجاجاته المؤنسنة، والتي ما انفك يصورها حتى استنزف آخر لحظات تجربته العدمية قبل موته عام 1955. قد تكون تجربته مع ذلك من أكثر العلامات الحداثية التي عانت من سوء فهم النقاد، ولولا اجتياحه الأسلوبي للفنانين الشباب لما أُنجز معرضه التكريمي بعد عام من وفاته، وظلّ هذا المعرض يتيماً حتى عام 1981 تاريخ أول معرض استعادي له في "القصر الكبير"، خصصت له في حينه ملفاً نقدياً كبيراً في مجلة "فنون عربية" اللندنية - العدد الثالث. ثم ظلت معارضه نادرة منذ ذلك الحين. هما اثنان: الأول نظم في عام 1991 والثاني في عام 1994. لا تقارن هذه المعارض اليوم بالمهرجان الاستعادي التكريمي الذي خصصه لتجربته متحف "مركز بومبيدو"، وسيستمر أشهراً عدة، فقد ابتدأ من نصف آذار مارس وسيتابع حتى بداية تموز يوليو المقبل من العام 2003، مدعوماً بطباعات بالغة العناية، وحملة نقدية وإعلامية وعدد كبير من الندوات والأفلام، يثبت المعرض الراهن قناعة الفنانين الذين عاصروه بأنه يستحق دوماً أكثر مما كُرم به، فقد التمع مثل الشهاب على رغم أصله الروسي. فهو من مواليد بطرسبورغ عام 1914. هاجرت عائلته الى بروكسيل بعد الثورة البلشفية. ولم يصل فرنسا حتى 1934، قضى القسم الأول منها في باريس، ثم في الجنوب الفرنسي في مدينة آنتيب المتوسطية، كان يسعى خلف الشمس مثل ألبير كامو، وكانت روحه متوسطية خصوصاً بعد سفره الى المغرب، واكتشافه للدرجات الساطعة في حدائق اللون، مستسلماً الى تأثيرات صديق الفن العرب يالإسلامي هنري ماتيس. تشبه أسفاره الأخيرة ما جرى لفان غوغ وغوغان من السعي خلف الشمس وقدرية ألوان جنوب المتوسط. كما التمع بسرعة انطفأ بصورة خاطفة مخلفاً أصداء ملحمية عميقة التأثير، سواء على مستوى كثافة اللون ونحت اللوحة أم بالعكس على مستوى القرار الحاسم في اللون الشفاف، سواء على مستوى التجريد أم التشخيص، فقد كان يتراوح بين الحدين، يبدو اليوم هذا التراشح أشبه بالوصية والنبوءة "ما بعد الحداثية"، لا تنفصل عن الثنائية التي كان يعيش تناقضها: ما بين الوجود والعدم، أو بناء الشكل وتدميره بالصباغة الإشعاعية والموسيقية. لعل أبرز خصائصه منذ بدايته انه يتعامل مع المرئيات بخطوطها وألوانها على انها معاشة من الداخل، وكأنها حدث تراجيدي صاعق، أقرب الى القرع القدري كالذي يستنزف فيه ألبير كامو أبطاله حتى الثمالة العبثية. فإذا كان كامو يستخدم في خرائط رواياته صيغة الفعل التلغرافي أو الإخباري، فإن دوستائيل كان يستخدم في المقابل الوحدات المتتالية أو الشرائح التجريدية المتعاقبة زمانياً. وهنا تبدو مداناته المستحيلة من الموسيقى باعتبارها جوهراً للتصوير. اشتمل المعرض على مئة وخمس وثلاثين لوحة بعضها بقياس عملاق وثمانين رسماً، اضافة الى الكثير من الطباعات والمحفورات والكتب الفنية. تجتمع كلها من متاحف ومجموعات متباعدة للمرة الأولى، بعضها يعرض لأول مرة. تسمح خصوبة مواد المعرض أن يقترب مجهرنا النقدي أكثر من مفاصل تجربته، على الأقل خلال أصالة عقدها الأخير. يبدو اهتمام دوستائيل بالموسيقى من خلال اتصاله الدائم بدار الأوبرا، انعكس هذا التواصل على المجموعة المعروضة تحت عنوان "الغزل الهندي"، يبدو التوزيع الأوركسترالي للون جلياً، ثم في عام 1950 يتعرّف الى سوزان تيزيناس وصالونها الذي يجمع الكتّاب والموسيقيين، وذلك قبل أن يتعرف على سترافنسكي وبوليز، يحفظ المعرض نصاً كتابياً لدوستائيل الى صديقه رونيه شار عام 1952 يسجل فيه صبوته الملحة في البحث عن توقيع لوني صائت، يحمل ضجيج الموسيقى كما هي في المباريات الرياضية، يمكن ملاحظة هذه الصبوة من خلال لوحة "تكوين" التي ترجع الى بدايات محاولاته الإيقاعية، تتقارب من نظام النوطة الموسيقية، حيث تعتمد على مدرجين من الدرجات المسطحة شبيهة ب"أوكتافين" من السلم الموسيقي بمعنى القرار والجواب. يعتمد في وحدة النغم هنا على مفردة تربيعية، مهروسة بعرض سكين العجائن اللونية، تشبه العلامات الموسيقية المتحولة. يظهر في "موادية" و"جيولوجية" هذا النسيج المشبع بالنور تأثر الأيقونات البيزنطية. هي التي أثرت على مواطنه المعاصر بولياكوف. لكن موسيقى دوستائيل تنتهي الى تصميت عقيرة الألوان المتزامنة، فالوجود الصائت بالنسبة الى حساسيته يبدو استثناء بعكس الصمت الذي يمثل القانون المطلق. تحول منذ عام 1954 من الملمس النحتي المتغضّن الى المواد الصباغية المتقشفة والشفافة، ذات السيولة التي لا تسمح بالتعديل، مسفوحة برحابة تدفق "التربنتين" وضمن فراغ شاسع أشبه بالمساحة "الطاوية" في المناظر الصينية، مصوراً مناظر رحبة أو عناصر من الطبيعة الصامتة عائمة في الفراغ، أو يستعيد رسوماً صدفوية متسارعة يقتنصها بصورة خاطفة وهو في القطار أو السيارة. وهنا يبدو اهتمامه بالفراغ أكثر من الامتلاء وبالعدم أكثر من الوجود. ثم أصبحت اللوحة لحظة حسية عمودية الانفعال أشبه بأشلاء ممزقة بعد حادث طائرة، وبما يعقبها من صمت الموت والبوار، واحدة من هذه اللوحات ذات عنوان طريف: "المقلاع"، بما يوحي به هذا الموضوع من التوجس والصمت المقلق الذي يسبق أو يعقب العاصفة. سكون فراغي موحش أشبه بالانفجار الذي يتجاوز عتبة السمع مثل قنبلة هيروشيما، ومثل اقتناص لحظة الانفلات في سهم مشدود قبل انطلاقه. يقول في هذا الخصوص في إحدى رسائله: الى دوبورغ عام 1954: "عندما انقضّ على لوحة من قياس كبير، يخامرني إحساس بالصدفة القدرية العملاقة، فأستسلم الى التسارع في الضربة الأولى البكر". هذه هي حال لوحته الأخيرة "الكونسير" والتي تبلغ ستة أمتار امتداداً وثلاثة ونصف عرضاً، فهي الوصية التشكيلية الأكثر أهمية في حياته وفي المعرض، انتحر قبل أن يكملها. تبدو كجدار ملطخ بالأحمر، هو الذي يبتلع آلتين موسيقيتين فارعتي الطول، واحدة عمودية وترية هي "الفيولونسيل" والثانية أفقية إيقاعية هو "البيانو"، تنتثر بينهما أوراق النوطة الرهيفة البياض. ابتدأ هذه اللوحة مداهماً فراغها الموحش بعد حضوره لكونشرتو لشونبرغ، ثم يعبر نافذة محترفه الباريسي في انتحار خاطف، ليعيد طفرة وجوده الى الصمت، خاتماً سيمفونية تدميره الذاتي بالهجرة عن مستحيلية التصوير والواقع الحي. تجربة قريبة من ذبح فان غوغ لأذنه، تتحول غربان فان غوغ لديه الى أسراب من طائر النورس، ممثلاً قدر الارتحال والهجرة عن الوجود. قد تكون وجودية التوأم نيكولا دوسائيل وألبير كامو آخر بطولة ممكنة التناغم بين الفعل والفكر.