على مدى يومين 11-12/11/2008، انعقد تحت عنوان"ثقافة السّلام"مؤتمر حوار الأديان والثّقافات الّذي عقدته الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، وتوّج أعماله ببيان ختامي حمل إسم"إعلان نيويورك"أكّد فيه على الأهداف والمبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتّحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما أعاد إلى الأذهان تعهّد جميع الدّول بموجب الميثاق بتشجيع حقوق الإنسان والحرّيّات الأساسيّة للجميع، بما في ذلك حرّيّة الإعتقاد والتّعبير، دون التّمييز على أساس العرق أو الجنس أو اللغة أو الدّين. إلاّ أنّه وفي غيبة قيم التسامح لدى الثقافات المختلفة، وفي ما بينها، وداخل الثقافة الواحدة، ومن ضمنها من يحسبون عليها من أفراد وقوى وأحزاب وسلطات"وفي غيبة ثقافة تسامح واقعية مؤنسنة، بعيداً من إنتهاك قيمها وأخلاقياتها وفلسفتها الثابتة غير المؤسطرة، وكمبدأ أساس من مبادئ حقوق الانسان، فإن سيادة أو تسييد نقائضها النافية كالتعصب والتطرف والإنغلاق، وكامل محاولات الإقصاء والتهميش، وسيادة نهج الأحاديات ? والعولمة الراهنة بطبعتها غير الإنسانيّة أبرزها ? ومحاولة إملاء الإرادات الخارجية على الدواخل الوطنية"كل هذا يقدم نقائض صادمة لقيم التسامح وأخلاقياتها، ما يباعد بينها وبين أن تتجسّد كثقافة عامة راسخة في نفوس البشر وسلوكياتهم، في تكريس لتلك الفروق المفاهيمية التي رسمت حدوداً صارمة بين ما هو سياسي وما هو ثقافي داخل المجتمعات، وبينها وبين المجتمعات الأخرى، وبين ما هو نظري وما يمارس عملياً على أرض الواقع. وإذا كان"حلف الفضول"السابق على الإسلام، شكل أحد أبرز محطات التسامح الذي حاول"الاسلام الأول"تأصيله، عبر أشكال من التواصي والتآزر والتآخي والعفو، فإن حال التّردي الراهن يضعنا أمام خطاب إسلاموي"معاصر"يشكل أحد أبرز محطات التعويق، أمام تنمية ثقافة وفكر التسامح والتنوير والنهضة والحداثة المنتجة إبداعاً قيمياً ومادياً، ما يحيل إلى ضرورة تأصيل التّسامح راهناً، شرطاً لترسيخ قضية المواطنة، وإحترام قيم الآخر المغاير أو المختلف، كشرط لإحترام قيم التنوع الثقافي في إطار المشترك الإنساني، إدراكاً لمعنى الترابط والتشارك في بناء حضارة إنسانية مشتركة، قائمة على التسامح والحوار مع الآخر والقبول المتبادل بين الأنا والأنا الآخر، وبين الذات والذات الأخرى قبولاً تاماً ومطلقاً. وكم يبدو حرياً بنا ونحن نرنو إلى قيام حكم رشيد، وتشييد أساس مكين لبناء ديموقراطي حقيقي، وإلتزام مسار خال من كل شوائب التسلّط الإستبدادي، وقيام إصلاح ديني وسياسي وإقتصادي، وإحترام مجمل حقوق الإنسان في كل ما يحفظ له كرامته ويصون إنسانيته، وبناء تنمية مستدامة إنتاجية لثروتنا البشرية والمادية، متجاوزين كل نظريات"إختراع التخلف"التي حطّت من مقدرة شعوبنا ومجتمعاتنا، وأقعدتها وعطلت محفّزاتها على التحرر من كل المكبّلات والمعيقات التي انتصبت كسدود حاجزة أمام تقدمنا. كم بالحري أن تكون حاجات التطوّر الراهن وضرورته، خليقة بنا للإشتغال على تنمية ثروتنا البشرية، بما هي المؤشّر والدافع الأبرز لقيام تنمية حقيقية، حفاظاً على الثروة الإبداعية الكامنة في ثقافة الإصلاح والإنفتاح والتّسامح، إنقاذاً وتخليصاً لها من إجتياح أيديولوجيات الهيمنة والعداء للآخر، من حيث كونه ذاتاً منسوبة لذات هي آخر بالنسبة لذات أخرى. هذه الحلقة المفرغة المليئة بتواصل العداوات وعدم القبول المتبادل، وإن لم تفض في السابق إلى ملء هذا الفراغ، فهي لن تفضي راهناً ومستقبلاً سوى إلى الدمار المتواصل لسلاسل من التطور الانساني، وتدمير إمكانات التعايش بين أجيال بشرية تتناسل لتحيا وتموت، بعيداً من قيم التواصل وأخلاقيات التسامح وفلسفة القبول المتبادل بين الذوات المختلفة، حيث يستحيل صهرها في قالب أو قوالب الأحادية الموهومة، في ظلّ سيادة تلك الأنماط"الفاعلة"والمنفعلة، القائمة على تسييد المجزّءات العرقية والطائفية والمذهبية التفتيتية، خصوصاً لدى أولئك الذين يحاولون وبإدراك ووعي كاملين، فرض توجهاتهم الأحادية، تلك التي تعلن وعلى رؤوس الاشهاد قطيعتها، القطيعة التي أرادتها وتريدها دائمة، في نسف لكل جسور الترابط بين ضفاف العالم، ونقض كامل مشتركاتها الإنسانية، وهو ما لا يمكن الخروج عليها أو نقضها، دون الخروج ونقض قيم الحياة الإنسانية ذاتها، وتجرؤاً عليها من قبل من لا يملك الحق مطلقاً في ممارسة هذا النقض، وإحلال لغة الموت وثقافة القتل بديلاً للغة وثقافة الحياة. لهذا تشكل عملية تأصيل التسامح في نطاق المجتمعات البشرية، إحدى الضرورات الأساس، لقيام الحضارة الانسانية على حوامل من سمو أخلاقيات القبول بالآخر قبولاً تاماً ومطلقاً، بدءاً من القناعة المطلقة بشروط قبول الذات لذاتها، وبشروط قبول الذات للذات الأخرى، بكل ما تملكه وتحمله من أفكار وعادات وتقاليد وإعتقادات، حيث الإحتكام لنظريّة في التسامح غير المشروط، ينبغي تسييدها في مناخات من الحرية المفتوحة على حرية الآخرين، تماماً كما يراد لها ان تكون مفتوحة على حرية الذات نفسها، دون فروض وإكراهات مناخات الإستبداد والإستعداء والعداء. وإذا كان الشرط السياسي يذهب إلى إطلاق تسمية"المصالحة"في مجتمعات شهدت أو تشهد تناحرات أهلية، إلا أنه مفهوم يبقى أكثر إرتباطاً بالسياسة وبالسلطة. أما الشرط الاجتماعي فهو يبقى أكثر إرتباطاً بالتسامح وبأهمّيّة إبتكاره وبلورته على قاعدة من قبول التعدّد والتّنوع، أكثر من نسبته إلى مجال"المصالحة"في بعدها السياسي. وإذا كانت المودّة ومحبّة الآخرين تنبع من المعرفة والمعارف الإنسانية عموماً وبالتحديد، وما يتعلق منها بالأحاسيس والوجدان، فإن التسامح والغفران والصفح.. إلخ من تسميات الخروج من حال الإنغلاق، تنبع هي أيضاً من المعرفة والإدراكات العقلانية لمآلات تطور المجتمعات البشرية، وكيفيّة العمل لبنائها على هذه الأسس المتشارطة مع أسس أخرى، لا تقل أهمية، فالتسامح والصفح والغفران، كلها مفاهيم دلاليّة تنتمي إلى فضاء واحد، عماده القبول بالآخر وجوداً بيولوجياً قبل قبوله كمختلف سياسي - ديني - ثقافي أو حضاري. * كاتب فلسطيني. نشر في العدد: 16663 ت.م: 17-11-2008 ص: 28 ط: الرياض