تعرضت مدينة عكا الفلسطينية خلال العقود الستة من احتلالها لمحاولات إسرائيلية مبرمجة لتهويد ما تبقى من معالمها العربية، ناهيك بالسياسات الإسرائيلية المتبعة لتهجير سكانها العرب أصحاب الأرض الأصليين. ولم تكن الاعتداءات التي حصلت أخيراً على العرب في مدينة عكا الأخيرة، بل ستشهد في المدى المنظور اعتداءات من مجموعات صهيونية منظمة على العرب للحد من نشاطهم الاقتصادي وتمددهم الديموغرافي بفعل الزيادة الطبيعية. مقارنة بالمستوطنين اليهود في المدينة. وستعمل السلطات الإسرائيلية الى كسر التمركز العربي في داخل عكا القديمة. وفي هذا السياق يذكر أنه صمد في داخل المناطق التي أقيمت عليها إسرائيل في أيار مايو من عام 1948 نحو 151 ألف عربي فلسطيني"تجمع القسم الأكبر منهم في منطقة الجليل الفلسطيني ومنها مدينة عكا في الجليل الغربي على الساحل الفلسطيني الجميل التي يقطنها حالياً، بحسب الدراسات المختلفة، نحو 56 الف نسمة، من بينهم 38,000 مستوطن يهودي و 18,000 عربي. أي ان المدينة تعتبر مختلطة لجهة السكان. ويتمركز العرب في عكا القديمة بنسبة تصل إلى 100 في المئة، وخارج الأسوار في حي فولفسون بنسبة 90 في المئة من الحي، ومركز عكا الجديدة بنسبة نحو 70 في المئة. فيما يتمركز اليهود في الحي الشرقي حيث موقع الأحداث الأخيرة بنسبة تصل إلى نحو 98 في المئة، وفي شمال عكا بنسبة 75 في المئة. ورئيس بلدية عكا وغالبية مؤسساتها التابعة للحكومة هم من اليهود "لذا يعاني سكان عكا العرب من تمييز عنصري. الأمر الذي أدى الى قلة عدد المدارس العربية واكتظاظها في المدينة والنوادي الخاصة بهم ناهيك بضعف الخيارات المتاحة للعربي بفعل سياسة الاسرلة المتبعة في المدينة والتي جعلت الأقلية العربية هامشية على المستويين الاجتماعي والاقتصادي. وعلى رغم التمييز العنصري الواضح ضد العرب في عكا، يشهد المتابع تقدماً ملحوظاً للعرب في المدينة على المستوى الاقتصادي، فمعظم المحال التجارية في عكا القديمة ومركز عكا هي للعرب، كما أن العرب حصلوا في السنتين الأخيرتين على معدل نتائج في امتحانات الثانوية العامة أعلى ب 12 في المئة من الطلاب اليهود في المدينة. وفي مواجهة الصمود العربي في المدينة "استجلبت السلطات الإسرائيلية مجموعات من المستوطنين للاعتداء على العرب في المدينة بغية طردهم وإحلال اليهود مكانهم للإخلال بالتوازن الديموغرافي وتهويد المدينة في شكل كامل في نهاية المطاف. وتعتبر مدينة عكا من اقدم المدن العربية الفلسطينية، وهي تأسست على الساحل الفلسطيني الجميل عل يد إحدى القبائل الكنعانية المعروفة بالجرجاشيين في الألف الثالث قبل ميلاد السيد المسيح، وسميت المدينة عكو"أي الرمل الحار. وتقع عكا المدينة في الطرف الشمالي لخليج عكا، ويدل موقعها بين راس الناقورة شمالاً وجبل الكرمل في وسط فلسطين على أهمية عامل الحماية واختيار الموقع. وأثرت هذه الصفة في البعد الاستراتيجي لموقع عكا منذ إنشائها. وتعتبر وظيفة عكا العسكرية من أهم وظائف المدينة التي تمتاز بها عن غيرها من مدن الساحل الفلسطيني الذي يمتد لأكثر من مئتي كيلومتر من الشمال حتى جنوبفلسطينالمحتلة، وتؤكد أسوار مدينة عكا وحصونها وقلاعها وأبراجها المحيطة بها من جهتي البر والبحر الأهمية الدفاعية في وجه الطامعين من الأقوام المختلفة. لقد كان الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمدينة عكا مدخلاً لأطماع الغزاة، إذ تسابق على احتلالها غزاة كثر ورحلوا بسبب إرادة أهلها، بيد أن المدينة تعرضت خلال القرون الماضية لعمليات تدمير مبرمجة، ومن ثم إعادة ترميمها من جديد. امتزجت دماء شهداء أهل عكا بتربتها الغالية، أسوار عكا الشامخة التي تطل على البحر شاهدة على نضالات أهلها ضد الغزو الصليبي فضلاً عن كسر حصار نابليون بونابرت في القرن التاسع عشر الميلادي. وأعطى موقع عكا الاستراتيجي أبعاداً أخرى لا تقل أهمية عن البعد العسكري، فعكا صلة الوصل بين أوروبا وفلسطين، ونقطة تجمع الحجاج المسيحيين الى الأرض المقدسة، وأقيمت فيها في أيام ظاهر العمر وأحمد باشا الجزار خانات متعددة كان ينزل فيها المسافرون والتجار والقوافل المتعددة التي تحمل خيرات البلاد لتنقلها السفن الى دول العالم، ومن اشهر تلك الخانات خان الجزًّار وخان الشونة. ومن خلال سهل عكا كان أهلها يتمتعون بغلة زراعية وفيرة مثل الحبوب والزيتون والخضر والموز والنخيل. وبفعل العوامل المختلفة التي تمتعت بها مدينة عكا في الجليل الغربي الفلسطيني، باتت المدينة محط أنظار الغزاة الصليبيين، الذين سعوا الى حماية نفوذهم في فلسطين في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، من خلال محاولة الاستيلاء على الموانئ، ففي عام 496هجرية الموافق لعام 1102ميلادية أسرت السفن الفاطمية في ميناء عكا سفناً تحمل حجاجاً مسيحيين عائدين الى بلادهم وباعوهم في سوق الرقيق في القاهرة، فخشي ملك بيت المقدس من سوء العاقبة، وحاصر مدينة عكا في العام التالي، فأنجدتها السفن الفاطمية عبر الموانئ المجاورة، وقد ساعدتها في الصمود تحصيناتها الجيدة، فعاد جيش الملك أدراجه مهزوماً بعد حصار لم يدم طويلاً لعكا "لكن الملك استنجد بأسطول مدينتي بيزا وجنوا، فاحتلت الأساطيل الصليبية بعد اتفاق مع الملك ساحل جبيل ثم حاصرت مدينة عكا لمدة عشرين يوماً بعد صمود مشهود له في التاريخ إلى ان سقطت في عام 497 هجرية الموافق لعام 1104 ميلادية، وتوالت الاحتلالات على المدينة نتيجة موقعها الاستراتيجي، لكن عكا بأسوارها بلغت مجداً عالياً من الصمود خلال حصار نابليون لها في عام 1214 هجرية الموافق لعام 1799 ميلادية، فأوقف صمود أهل المدينة ومنعة الأسوار حولها تقدم جيش نابليون، بعد ان احتل مصر وسواحل فلسطين الأخرى، وتشير الدراسات التاريخية الى ان حصار جيش نابليون البحري والبري لمدينة عكا وهجومه العنيف على الأسوار استمر من الحادي عشر من آذار مارس من العام المشار اليه وحتى العشرين من أيار من العام نفسه. وتقهقر جيش نابليون بعد ذلك بفعل صمود أهل المدينة بقيادة الجزار من جهة ومساعدة الأسطول الإنكليزي بقيادة السير سدني سميث من جهة أخرى، ومعلوم انه كان هناك تناحر بين الإنكليز والفرنسيين للسيطرة على بقاع الأرض والمناطق المهمة. وبعد هذه المعركة انتهت أحلام نابليون في محاولات السيطرة على الشرق. وقام سليمان باشا العادل الذي خلف الجزار في حكم مدينة عكا بإعادة ترميم ما دمرته آلة جيش نابليون، وبخاصة الأسوار المنيعة والحصون المختلفة. ومن جديد استطاعت بريطانيا عبر نفوذها وانتدابها على فلسطين خلال الفترة الممتدة من عام 1922 الى أيار من عام 1948 مساعدة العصابات الصهيونية في السيطرة على الساحل الفلسطيني ومنه مدينة عكا، حيث تم طرد غالبية قرى أهالي القضاء خلال نكبة فلسطينيين الكبرى في أيار من العام المذكور، فتناقص مجموع سكان مدينة عكا من العرب أصحابها الأصليين ليصبح نحو ثلاثة آلاف بعد النكبة مباشرة، وارتفع الى نحو خمسة آلاف في عام 1965، وبفعل سياسيات الإجلاء الإسرائيلية القسرية بقي مجموع العرب ثابتاً في مدينة عكا حتى عام 1973، وما لبث بالزيادة أن ظهرت بفعل الخصوبة العالية عند النساء العربيات "حتى وصل مجموعهم الى ثمانية عشر ألف عربي في العام الحالي. ولحماية عروبة مدينة عكا والتواجد العربي فيها "لا بد من دعم عربي سياسي ومادي لتثبيت أهالي عكا في أرضهم حتى إزاحة أبشع نوع من الاحتلالات التي مرت على فلسطين. * كاتب فلسطيني. نشر في العدد: 16661 ت.م: 15-11-2008 ص: 29 ط: الرياض