ما يميز مهرجان مراكش السينمائي الدولي، بالنسبة الى النقاد والمعنيين بالفن السابع، هو"الاكتشاف"التدريجي لما يعرض في مسابقته الرسمية. فهي في العادة، أفلام لا يعلن عنها ولا تنشر صورها الا قبل افتتاح الدورة بأسبوعين على الأكثر، ما يعني ان التخمينات تبقى سيدة الموقف حتى اللحظات الأخيرة. ثم حين تعلن هذه الأسماء، وهوية أصحابها، تسود علامات استفهام، لغرابتها... المخرجون لا نعرفهم، والأفلام ليست من النوع الذي يجرى تداول أخباره في الصحف مسبقاً... حتى البلدان التي تأتي غالبية هذه الأفلام منها، لا تكون عادة من البلدان المشهود لها في مجال الإنتاج السينمائي العالمي. ولا تشذ عن تلك القاعدة الدورة الثامنة من هذا المهرجان المغربي الذي بدأ يحتل مكانه بقوة وصلابة خلال السنوات الأخيرة. ولا شك في ان غالبية ما سيعرض في الدورة الثامنة ابتداء من اليوم، ولا سيما في المسابقة الرسمية، سيغذي علامات استفهام كثيرة، لكن الأكيد ان ما سيحدث لاحقاً، هو ما يحدث في كل دورة تقريباً، اي ان هذه الأفلام ذاتها ستصبح خلال الشهور التالية، حديث أهل السينما، وحاصدة جوائزها. من هنا ينصح الداخل الى مهرجان مراكش، بأن يحفظ الأسماء جيداً مهما كانت غرابتها، لأن بعضها سيصبح من أهل السينما العالمية عما قريب. من"100"لكريس مارتينيز الفيليبين، الى"عرس ريفي"لفالدسي اوسكار سدوتس ايسلندا، الى"قبل عام في الشتاء"لكارولين لنك المانيا، الى"عدن"لدكلان ركسي ايرلندا، الى"عش فارغ"لدانيال بورمان الأرجنتين، الى"زمن الموت"لدوروتا كدجيارزافسكا بولندا، الى"الجسر صفر"لطارق تابا الولاياتالمتحدة/ الهند، الى"شافت"لجانغ شي الصين، وسواها من الأفلام التي يعتقد المراقبون انها ستصبح الشغل الشاغل للصحافة والهواة. تكريمات في قلب السينما لكنّ أفلام المسابقة الرسمية ليست كل شيء في هذا المهرجان الذي اشتهر بقلة عدد أيامه تسعة أيام، وبقلة عدد جوائزه. فإذا كانت المسابقة الرسمية تتضمن مباراة بين 14 فيلماً من شتى أنحاء العالم، فإن التظاهرات الأخرى في هذا المهرجان، لا تقل أهمية عن تظاهرته الرئيسة، فهناك أيضاً أفلام"خارج المسابقة"وپ"خفقة فؤاد"... والتظاهرتان تضمان أفلاماً من النوع الذي لا ينسى بسهولة. وكذلك هناك عدد لا بأس به من التكريمات التي ربما يكون أهمها تكريم خاص لفنان السينما العربية الراحل يوسف شاهين. صحيح ان شاهين، ومنذ رحيله الصيف الفائت، كرّم في غالبية المهرجانات العربية التي عقدت في الفترة الأخيرة، ولكن الأكيد ان تكريمه في مراكش، هذه المرة، يتخذ طابعاً اكثر سينمائية، من دون ان يكون اقل احتفالية، وبخاصة لأن نور الدين صايل الأمين العام لمهرجان"مراكش"قرر منذ البداية ألا يكون التكريم عشوائياً صاخباً، بل شاملاً لأهم الأفلام التي حققها شاهين في حياته. من هنا تأتي تظاهرة"مراكش"لتسلط الضوء على المميز لدى شاهين وعلى ما أحبه النقاد - وصايل منهم - من أعماله الكثيرة. والمؤسف في الأمر هو ان تكريم شاهين سيكون هذه المرة من سمات الحضور العربي النادرة في مهرجان آلى على نفسه منذ 5 سنوات، مضاعفة حصة الوجود العربي. ولكن هل كان هذا حقاً في الإمكان، والتوقيت جعل من"مراكش"واحداً من آخر المهرجانات"العربية"من ناحية الترتيب الزمني أواخر هذه السنة؟ من هنا لا يدهش المرء إن وجد ان الحضور العربي يتمثل في التظاهرات المختلفة في الحدود الدنيا: لا شيء في المسابقة الرسمية باستثناء فيلم يقدم باسم المغرب هو"قانديشا"للمخرج الفرنسي جيروم كوهين اوليفار. وفي تظاهرة"خفقة فؤاد"يطل"عيد ميلاد ليلى"للفلسطيني رشيد مشهراوي الذي عرض في اكثر من نصف دزينة من المهرجانات حتى الآن وپ"عقلتي على عادل"للمغربي محمد زين الدين الذي يأتي مواطنه عزيز سلمي مشاركاً في تظاهرة"خارج المسابقة"بفيلم"حجاب الحب". والحقيقة ان في إمكان الباحث عن الأسماء في هذه الدورة من"مراكش"ان يتوجه الى هذه التظاهرة بالذات، بحثاً عن هذه الأسماء وأفلامها. وهنا يطل جديد الروسي اندريه كونتشالوفسكي "غلوس" وفيلم"الدوقة"لشول ديب من بطولة كيرا نايتلي ورالف فينس وشارلوت رابلنغ"وفيلم ريدلي سكوت الجديد المثير"متن من الأكاذيب"، إضافة الى فيلم الافتتاح"ما الذي حدث حقاً؟"لباري ليفنسون الذي يرأس لجنة التحكيم، وسبق لفيلمه هذا ان اثار إعجاباً كبيراً حين عرض خارج المسابقة في الدورة الأخيرة لمهرجان"كان"، وهو فيلم عن السينما نفسها من خلال شخصية منتج يجسدها روبرت دي نيرو. أما الذين يتساءلون منذ زمن أين صارت النيوزلندية جين كامبيون، فيأتيهم الجواب في هذه التظاهرة من خلال فيلم"8"الذي يقدم في حفلة الختام، ويتناول ثمانية أهداف إنسانية كانت الأممالمتحدة حددت ضرورة الوصول اليها قبل سنة 2015. إذ يحمل توقيع كامبيون، الى جانب 7 مخرجين آخرين، هم: ميرا نائير، غايل غارسيا برنال، يان كونان، غاسبار نوي، عبدالرحمن سيساكو، غاس فان سانت، وفيم فاندرز. تاريخ بريطاني ما وإضافة الى حاضر السينما، يعنى مهرجان"مراكش"بتاريخ الفن السابع أيضاً. وفي هذه الدورة نظرة الى تاريخ السينما البريطانية التي تقدم في تظاهرة خاصة عبر مجموعة أفلام هي الأشهر بين الانتاج البريطاني خلال أربعين سنة من"إذا..."للندساي اندرسون الى"عربات النار"لهوغ هدسون، مروراً بأعمال مثل"أحضر كارتر"لمايكل هودجز وپ"يوم الأحد اللعين"لجون شليسنغر وپ"لا تنظر الآن"لنيكولاس رايغ، وپ"اكسكاليبر"لجون بورمان. وكأن هذا لا يكفي لإعادة تاريخ السينما البريطانية الى الحياة، إذ ها هي تظاهرة موازية فيها ثلاثة من المخرجين الذين عاشوا وعملوا بين العالمين البريطاني والأميركي: هتشكوك الانكليزي الذي عمل في هوليوود، وجوزف لوزاي وستانلي كوبريك الأميركيان اللذان عاشا وعملا في بريطانيا، هرباً من أنياب السيناتور ماكارثي. في التكريمات أيضاً تكريم خاص للروسي أندريه كونتشالوفسكي، وتكريم صاخب للنجمة سيغورني ويفر التي كانت بدايتها مع وودي آلن في"آني هال"... وآخر للصينية ميشال يوه التي يعرض المهرجان عدداً من ابرز الأفلام الشعبية التي مثلت فيها بما في ذلك"مذكرات غيشا"وپ"المومياء"وپ"نمر متربص تنين مختبئ". وبما ان هذا العام هو عام الذكرى الخمسين لولادة السينما المغربية، كان من المنطقي للبلد المضيف ان يكرّم سينماه من خلال تظاهرة عنوانها"50 سنة من السينما المغربية"، بدءاً من الاحتفال بالرائد محمد عصفور وصولاً الى احدث انتاجات السينما المغربية التي تعيش ازدهاراً هذه الأيام. بعد هذا كله، واضح ان الأيام التسعة، مدة المهرجان، ستزخر بأفلام من حول العالم... خصوصاً تلك التي لا نعرف عنها شيئاً، ما يمنح مهرجان"مراكش"صفة المساهمة في مدّ الجسور الى مجاهل السينما.. نشر في العدد: 16660 ت.م: 14-11-2008 ص: 23 ط: الرياض