استضاف المعهد الشرقي في جامعة لايبزغ الألمانية هذا العام مؤتمر الاتحاد الأوروبي للمتخصصين في الدراسات الاسلامية والعربية من 24 - 28 ايلول / سبتمبر. كنت بين المشاركين والمشاركات، وزيارتي لمدينة لايبزغ هي الأولى. وللمدينة سحر، لم يلبث أن اضاف الى الأجواء الاكاديمية بعد الجمال، الذي لا يمكن أن يولد فكر وإبداع من خارجه. تراوحت مواضيع محاور الأوراق بين الدراسات القرآنية، الاتجاهات في الأدب العربي المعاصر، الحساب وعلم الفلك عند المسلمين، التاريخ الاسلامي المبكّر والمعاصر، علم الكلام والشريعة، المخطوطات العربية والبرديات، النيوبلاتونية والاسماعيلية، الببليوغرافيا دراسة الكتابة والنقوش القديمة والألسنيات والبلاغة، الاتجاهات الاسلامية السياسية المعاصرة، الشعر، الامامية الشيعية والعلوية، الشرق الأدنى وأوروبا، التصوّف، النقد التاريخي للمصادر. سأختصر في هذه العجالة بعض الأوراق البحثية ما يعطي صورة عن الأجواء المتنوعة التي تميّز بها المؤتمر. وسأتجاوز محور الدراسات القرآنية الذي شاركت فيه شخصياً بورقة حول"سورة مريم وقصيدة المدح: دراسة في البنية النموذجية". كان حاضراً ولفريد ماديلونغ، الألماني الأصل، الأميركي الجنسية، والذي صار بعد التدريس بجامعة شيكاغو استاذاً في جامعة أوكسفورد. لقد أخبرني ماديلونغ انه درس في جامعة فؤاد الاول جامعة القاهرة اليوم بين 1950 و 1953 على اساتذة كبار كأمين الخولي وشوقي ضيف ومصطفى السقا وفؤاد حسنين علي وابراهيم سلامة وأحمد أمين. ومن زملائه كان الاستاذ احسان عباس. قدم الاستاذ ماديلونغ ورقة عن عبدالله بن يزيد الفزاوي المتكلم الاباضي والذي نشط في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي القرن الثالث للهجرة. وقد نشرت مقالة عبدالله بن يزيد في الرد على القدرية، واكتشفت مخطوطتان فيهم مجموعة من النصوص استلت من أعماله، بما في ذلك كتاب التوحيد، وقد وجدت لدى الجماعة الاباضية في مزاب، بالجزائر. وتعتبر محتويات المخطوطتين، كما يقول ماديلونغ، مهمة جداً بالنسبة الى تطور علم الكلام عند المسلمين، إذ أنها من حقبة مبكرة جداً لم يبق منها الكثير من المراجع. والمثير، كما يناقش ماديلونغ، ان عقيدة أهل السنّة تطورت بعد عبدالله بن يزيد، وأننا لا نجد في نقاشاته القول بخلق القرآن كما رأينا في ما بعد بين الفرق الكلامية الأولى. ورقة الاستاذ سيباستيان غونتر، الذي صار أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة غوتنغن بعد أن درس في دائرة الدراسات الإسلامية في جامعة تورنتو 1989 - 2008. ورقة غونتر مهمة لأهمية البيداغوجية التعليم والتربية التي أولاها العلماء المسلمون عنايتهم. وقد تناول غونتر التعليم الديني والسكولائي عند الفيلسوف ابن رشد ت 1189 وعند اللاهوتي الدومنيكاني توما الأكويني ت 1274. ويعتبر الأخير"أحد تلاميذ ابن رشد ونقاده"وكما نعرف فإن القاضي والفيلسوف ابن رشد سافر الى الغرب ولم يسافر الى الشرق، بمعنى ان أثره العلمي كان له صداه ليس بين أهل ملته بل بين أهل الغرب المسيحي. يخبرنا غونتر عن خلفية ابن رشد والاكويني الكلامية الفلسفية وعن اهتمامات كليهما بالاسئلة الابستمولوجية بخاصة في العلاقة بين الفلسفة والدين، أي بلفظ ابن رشد ما"بين الحكمة والشريعة من اتصال". وقد اعتمد الاستاذ غونتر في الدراسة على"فصل المقال"، وعلى مختارات من الشرح المطوّل على"في النفس"، وركز على نقاشات ابن رشد في المنطق والخيال ودور الحقيقتين العلمية والشرعية في التعليم. وتبحث في دعوة ابن رشد المتحمسة لأجل طريقة منفتحة وبيّنة للتربية والتعليم. بالنسبة الى توما الاكويني فقد ركز غونتر على سؤال الأكويني الحادي عشر"حول المعلم"و"حول الحقيقة"وكذلك القسم الأول، من سؤال 117"مختصر اللاهوت"والذي يشير فيه بالأخص الى الفيلسوف ابن رشد. وقد تفحّص غونتر فكرة ابداعية المنهج التعليمي لحل مشاكل الطلبة، والتي على المعلم أن يقيمها لتسهيل تطور الطالب العلمي. وتدور هذه الفكرة حول تشجيع الطالب من طريق"أن يصل بنفسه"لفهم"نفسه". ورقة رزويتا بدري حول"الأعراف"،"الجندر"والتمثيل السياسي: التجربة الأخيرة للحركة النسائية الأردنية 1995 - 2007. تعالج الورقة التقاطع بين الأعراف و"الجندر"والتمثيل السياسي خلال العقد الأخير في تاريخ الأردن. فقد درست الباحثة، في السياق المحلي والدولي، نشاط النساء المنظم للحصول على المشاركة السياسية والنتائج التي حصلن عليها في الانتخابات البرلمانية لعام 2007. تقول بدري إنه مع الجهود الطائلة التي قامت بها العائلة المالكة وحركة حقوق المرأة الأردنية لم تحقق ارتفاعاً نسبياً لا في مستوى التعليم العالي ولا في مستوى الانتخابات بين النساء الأردنيات. وكانت نتيجته ان المرأة الأردنية لم تسجل تقدماً يذكر على صعيد وصول المرأة الى موقع القرار. فالعشائرية والتحفظ الاجتماعي يشكلان، بزعم الكثيرين، العوائق الرئيسة ضد المساواة بين الرجل والمرأة على مستوى التمثيل البرلماني والبلديات. وتشير الى أن اقامة مقارنة بين الاردن والمغرب - وهما البلدان اللذان يتبعان نظام الملكية السياسية ويرجع ملكها نسبه الى النسب النبوي، قد وقع كلاهما على اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، وأدخلا نظام الكوتا النسائية في الانتخابات - لذلك فإن إقامة مثل هذه المقارنة بين البلدين قد تعود بالفائدة. الذي أثارني في هذه الدراسة ليس النتائج السلبية التي وصلت اليها الباحثة حول مشاركة المرأة الأردنية في موقع القرار إنما المعلومة التي قدمتها بالنسبة الى الجهود التي تقوم بها الحكومة الأميركية والمملكة الاردنية في دعم هذه الخطوات، أي ان مشاركة المرأة هو مطلب أميركي قبل أن يكون مطلباً أردنياً أو نسائياً. هناك ورقة سأنهي فيها هذا العرض الموجز وهي لطيفة جداً لأنها تتعلق بالموسيقى في الحجاز في أواخر القرن التاسع عشر. فقد سمعنا من آن فان أوستروم تسجيلات قام بها المستشرق الهولندي سنوك هرغرنيه 1857 - 1936 من خلال سفرياته في الجزيرة العربية. وقد استخدم الكاميرا والفونوغراف للتسجيل ما يعني انه كان سابقاً لعصره. وقد عمل للحكومة الهولندية في اندونيسيا واصبح في ما بعد استاذ العربية في جامعة لايدن الرائدة في الدراسات الإسلامية في أوروبا. المهم أن هذه التسجيلات حفظت في مكتبة جامعة لايدن وفتحت مؤخراً للدراسة. وقد سجل هرغرنيه 300 تسجيل على دوائر شمعية لمنطقة الحجاز مع فونوغراف، من الموسيقى الى القصص والأذان، صوت الشارع، والتلاوة القرآنية. سمعنا بعض الأدوار ورأينا صوراً للتخت الشرقي في أواخر القرن التاسع عشر وحكت الدراسة عن أثر المصريين في الموسيقى على أهل الحجاز في ذلك الزمن الذي جاء ايام عبده الحامولي وقبل سيد درويش. كلمة إطراء أخيرة عن المؤتمر والمؤتمرين الذي تقيّدوا بالعشرين دقيقة لكل ورقة وعشر دقائق أسئلة، فلم يثقلوا كاهل المتلقين بأي شكل. أما المشرفة على المؤتمر الأساتذة فرينا كليم فقد قامت بجهد مشكور ليكون هذا التواصل بين المستشرقين تجربة عصرية ومنفتحة ولو في حدود الجغرافيا الأوروبية. * استاذة جامعية لبنانية متخصصة بالدراسات الاسلامية.