حينما كتب "أندريه موروا" كتابه"الطريق الى أميركا"لم ينس في الفصل الثالث والأخير منه أن ينصح كل راغب بالسفر إلى العالم الجديد أن ينسى مئات الكتب التي كتبت عن أميركا، فالرحالة يميلون دائماً إلى الإغراق في المبالغات حين يكتبون عن رحلتهم إلى بلد بعيد. ولكن أغلب الظن أن القراء لم يعملوا بنصيحة موروا وقد بدأوا ينقدونها بالفعل حينما أقبلوا على قراءة كتابه الممتع عن أميركا بشغف. ولقد ظل الرحالون والرواد وجواب الآفاق يرتادون البقاع كأنهم مكلفون بفضاء الأرض يزرعونها شفاءً لما في النفس من غزيرة إرتياد المجهول وكشف المخبوء. ولم تقف دونهم سدود ولا قيود منذ أيام هيرودوت وديودورو الصقلي في العصور القديمة وابن بطوطة وابن جبير وماركو بولو في العصور الوسطى وبرتون وسيتول في العصر الحديث. وحين نأخذ مع موروا في الاعتبار مبالغات الرحالين حين يدونون أسفارهم فإن عوامل نفسية كثيرة قد تدفعهم إلى مبالغات تختفي وراءها الحقائق إلى حد بعيد. وفي كل حال لا بد من التسليم بأن الرحالة أمتعوا الناس بثروة من المعارف لا يقاس ما فيها باحتمال المبالغة والمغالات، نظراً الى ما تحتويه من عناصر الأخبار والمعرفة والفائدة واللذة. إن ما نقله الرحالة في تجوالهم بين الأمم يعكس عاداتها واختلاف طبائعها وتقاليدها ومعتقداتها ومدى فهما لمعنى الفرح والحزن في الحياة. ولسنا الآن في صدد إحصاء هذه الغرائب والتأريخ لها بقدر ما يعنينا نقل ما شهده الرحالة من هذه المشاهد الغريبة. فابن جبير ينقل للقراء ما وقعت عليه عيناه من الأمور التي شاهدها ودونها في أخبار رحلته الممتعة. فلقد شاهد في منطقة صور زفاف عروس فلم يملك نفسه لشدة إعجابه بالمشهد أن يسجله، يجعله من زخارف الدنيا المحدث بها. فقد رأى ذلك الحفل عند ميناء صور"واحتفل لذلك جميع النصارى رجالاً ونساءً واصطفوا سماطين عند باب العروس المهداة والبوقات تضرب والمزامير وجميع آلات اللهو التي كانت معروفة بالشام ذلك الحين وخرجت العروس تتهادى بين رجلين يمسكانها عن يمين وشمال كأنهما من ذوي أرحامها. وتبدت العروس في أبهى زي وأفخر لباس تسحب أذيال الحرير الموشى بالذهب سحباً على الهيئة المعهودة من لباسهم وعلى رأسها عصابة من ذهب". ويمضي ابن جبير قائلاً:"ووراءها أكفاؤها ونظراؤها في أنفس الملابس ويرفلن في أرفل الحلى وآلات اللهو قد تقدمتهم، والمسلمون والنصارى من النظار وقد عادوا في طريقهم سماطين فساروا بالعروس حتى أدخلوها دار بعلها وأقاموا يومهم ذلك في وليمة". ولعل هذا الحفل الرائع في مدينة صور في القرن السادس الهجري يسوقنا إلى الحديث عن الزواج عند"الشلوك"في قلب إفريقيا كما وصفه الرحالة سافدج لندر الذي اخترق القارة المظلمة من الشرق إلى الغرب في القرن الماضي. فقد ذكر هذا الرحالة الجريء إن الرجل من"الشلوك"قل أن يتزوج أكثر من زوجة واحدة لارتفاع مهور النساء في تلك البلاد. ونلتقي مع المؤرخ المسعودي في عيد من الأعياد وفي ليلة من ليالي شهر طوبه حيث ليلة الغطاس التي كان لها في مصر شأن عظيم حتى كان الناس فيها يقضون الليل ساهرين لا ينامون. ولقد شهد المسعودي بنفسه هذه الليلة أثناء قدومه الى مصر في الثلث الأول من القرن الرابع الهجري ودوّن أخبار هذا المشهد قائلاً:"ولقد حضرت سنة ثلاثين وثلاث مئة ليلة الغطاس بمصر والأخشيد محمد بن طغج في داره المعروفة بالمختارة في الجزيرة وجانب الفسطاط ألف مشعل غير ما أسرج أهل مصر من المشاعل والشمع وقد حضر النيل في تلك الليلة آلاف من الناس من المسلمين والنصارى منهم في الزوارق ومنهم في الدور الدانية من النيل ومنهم على الشطوط ويحضرون كل ما يمكنهم إظهاره من المأكل والمشرب والملابس وآلات الذهب والفضة والجواهر والملاهي والعزف والقصف وهي أحسن ليلة تكون بمصر وأشملها سروراً ولا تغلق فيها الدروب ويغطس أكثرهم في النيل ويزعمون أن ذلك أمان من المرض ومبرئ للداء". وبلغ اهتمام المصريين جميعاً بعيد ليلة الغطاس وحرصهم على شهودها والمشاركة في أفراحها وملاهيها أن الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله نزل في قصر جده العزيز الفاطمي عام 415 ه ليلة الغطاس من ذلك العام لينظر الاحتفالات بها ومعه كل حريمه وأمر بأن توقد النار والمشاعل في الليل على ما سبقت به العادة قبلاً وكان الوقيد كثيراً في تلك الليلة كما ذكر المؤرخ المسبحي. وشاع في القرن السادس الهجري ان رجال الدولة المصرية كانوا يفرقون على الأهالي ما جرت به العادة لأهل الرسوم من الأترج والنارج والليمون في المراكب وأطنان القصب وهي كلها موالح الشتاء وفاكهته المعروفة في مصر في ذلك العهد. وفي موضوع الجنائز وصف الرحالة ديودورو الصقلي بعض الحفلات التي كانت تقام في مصر في عهده لتشييع الراحلين المودعين من ملوكها. وينقل أن من مظاهر أحزانهم على ملوكهم الراحلين أنهم يشقون ثيابهم حداداً ويغلقون معابدهم ويمتنعون عن تقديم القرابين إلى الآلهة، ويخرج الرجال والنساء معاً في جماعات يتراوح عدد الواحد منها بين المئتين والثلاثمئة وقد لطخوا هاماتهم بالطين وائتزروا في ما يلي الصدر بمئزر من النيل الرقيق النسيج وهم ينشدون المراسي ويرتلون محاسن الفقيد. ويبلغ الحزن بهم حد الصيام عن أكل اللحم والدهن والامتناع عن تعاطي النبيذ والإمساك عن أنواع الترف والابتعاد عن المرأة، ومجافاة الفراش الوثير، وترك الطيب والاغتسال مدة اثنين وسبعين يوماً ويظلون على هذه الحالة مدة الحداد". وعلى قدر اهتمام قدماء المصريين بمراتب الدفن وطبقات الجنائز وشعائرها تبعاً لاختلاف مراتب الموتى في الحياة فإنهم كانوا عند تأبين الراحل لا يذكرون شيئاً عن مولده لاعتقادهم على عكس الإغريق، أن المصريين جميعاً متساوون في شرف الميلاد. ولعل أعجب ما رواه ابن بطوطة من عادات أهل الهند في الاحتفال بالموتى هو إحراق جثثهم بالنار، وقد يبلغ وفاء المرأة لزوجها أن تلقي بنفسها في النار معه. أما عن غرائب المشاهدات فلقد نقلها بعض الرحالة أمثال الفارسي ناصر خسرو من خلال وصفه لمدينة مصر أن فيها بيوتاً مكونة من أربع عشرة طبقة وبيوتاً من سبع طبقات. على أن القاهرة التي لفتت نظر ناصر خسرو بكثير من مظاهر الأمن والجمال فيها قد لفتت نظره بكثرة الحمير فيها. فقد روى أن"أهل السوق وأصحاب الحوانيت يركبون الحمير المسرجة في طريقهم بين الأسواق وبين بيوتهم وعلى رؤوس الشوارع في كل حي حمر كثير عليها البرادع المزركشة وهي في انتظار من يستأجرها للركوب نظير أجر زهيد". ويذكر ناصر خسرو أن الحمير الرابطة في مواقف القاهرة والمسرجة للركوب تبلغ خمسين ألفاً أما ركوب الخيل فمقصور على الجندي والرجال المنتمين إلى الجيش. هذا المشهد تكرر من خلال ما نقله الرحالة الأندلسي ابن سعيد المغربي في القرن السابع الهجري، إذ لفت نظره كما لفت نظر ناصر خسرو من قبله في القرن الخامس الهجري كثرة عدد الحمير في دروب القاهرة ومسالكها وأرباضها، وكان يظن أن ركوب الحمير عيب كما في بلده. ويروي قصة أول حمار ركبه في القاهرة قائلاً:"ولما استقررت بالقاهرة تشوفت إلى معاينة الفسطاط فسار معي إليها أحد أصحاب القرية فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدة للركوب من يسير إلى الفسطاط جملة عظيمة لا عهد لي بمثلها في بلد فركب ... رفيقه منها حماراً وأشار إليّ أن أركب حماراً آخر فأنفت من ذلك على عادة من أخلفته في بلاد المغرب فأخبرني يعني رفيقه أنه غير معيب على أعيان مصر..."وإذا كانت القاهرة قد لفتت نظر بعض الرحالة بحميرها الكثيرة المسرجة المزينة فإنها لفتت أنظارهم ايضاً إلى كثرة السقائين فيها، وهي كثرة تجعل المشهد عجيباً على السائح الغريب. فلقد ذكر ابن بطوطة أن في مصر من السقائين على الجمال اثني عشر ألف سقاء وهو عدد قد لا نعرف مبلغه من الصحة والخطأ على وجه التحديد، ولكنه يدل على الكثرة التي لم تخلو من تقدير الرحالين. أما الرحالة ميشولم بن مناحم الذي زار مصر في القرن الخامس عشر أي بعد ابن بطوطة بقرن، فقد ذكر السقائين من خلال مشاهدته الذي دونها بدقة وعناية وقال إنهم يحملون الماء بقرب ويبيعونها للظمّاء والطالبين لقاء أجر زهيد جداً للشربة الواحدة وقد قدرهم في حسابه بما لا يقل عن أربعة آلاف سقاء.