بلغت القاهرة شأناً كبيراً لم تبلغه مدينة غيرها في العصور الوسطى، لجهة التطور العمراني الملحوظ وما صاحب ذلك من مظاهر حضارية وانشطة انسانية. حتى أن ابن خلدون عند رؤيته لها نعتها بأنها "حاضرة الدنيا وبستان العالم"، وأقر صاحبه ابو عبدالله المقري بان "من لم يزرها لم يعرف عز الإسلام". وكان لقاهرة المماليك والعثمانيين متنزّهات عدة يحسدهم عليها قاهريو هذه الايام، واستمتع الناس، وقتئذ، بأيامهم فيها أيما استمتاع. وأهم متنزهات القاهرة على الاطلاق نهرُ النيل وشاطئاه وجزره التي تتوسط مجراه. تلي ذلك برك هذه المدينة وخلجانها الرئيسية التي لم يعد لها وجود الآن. وكانت ميادين القاهرة في تلك الفترة من المتنزهات العامة ايضا ولعبت بفضل هذه الصفة دورا اجتماعيا كبيرا. ومن أهم هذه الميادين ميدان الرميلة وميدان تحت القلعة الذي يعتبر أهم بقعة استراتيجية في القاهرة في العصرين المملوكي والعثماني. وكانت المتنزهات هي المكان المحبب الى كل الناس للترويح عن انفسهم وقضاء اعيادهم ومواسمهم، إلا إنها ارتبطت في شكل خاص ببعض الأعياد والمواسم الهامة مثل موسم دوران المحمل واعياد وفاء النيل. وكانت مظاهر تنزه المصريين حافلة، اذ عمد الناس الى قضاء بعض اوقاتهم في المتنزهات على أحسن ما يكون، فكانوا خلال ذلك يتحررون من كل القيود. على ان الحال لم يكن دائما على هذا النحو من التحرر وإنما تعرّض المتنزهون في بعض الاوقات، خصوصا أيام الازمات والأوبئة والمحن، الى رد فعل مضاد فكان والي القاهرة ومن معه يهاجمون المتنزهات ويعتقلون من فيها. ومن خلال حصرنا للبرك وجدنا ان العمائر المحيطة بشواطئها تنتمي الى طبقة متميزة في المجتمع فمعظمها عمائر سلاطين وولاة وامراء وقضاة. ولكن المتنزهات كانت مرتعا للخاصة والعامة على السواء، حتى ان البعض فتح قصوره وحدائقه للغرباء وقد اتخذ الامراء القاطنون في قصور تطل على البرك من دعوة العامة الى قصورهم نوعا من الدعاية لهم اذ ارادوا ان يحيطوا شخصياتهم في ثوب فضفاض براق يظهرهم في وضع هام ومتميز. كما انهم كانوا يتحينون الفرص لدعوة السلطان وكبراء البلد والضيوف لينالوا من ذلك شرفا عظيما، فأقاموا المهرجانات الكبيرة ليرضوا غرور المدعوين. وعرفت عن المصريين روح المرح والدعابة رغم خضوعهم لارستقراطية حاكمة في العصرين المملوكي والعثماني تفننت في استغلال البلاد واهلها. وذكر ابن بطوطة الذي زار مصر اثناء سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون ان اهل مصر "ذوو طرب وسرور ولهو" وذكر بيلوتي الكيرتي ان "ماء النيل من خصائصه ان يجعل الناس دائما مرحين فرحين بعيدين عن الهموم والاحزان". ونلاحظ ان روح المرح لم تقتصر على فئة دون اخرى من فئات المجتمع المصري في ذلك الوقت، بل شملت كل الفئات حتى المحافظين واهل العلم. ويضرب لنا ابن بطوطة مثلا بقوّام الدين الكرماني، انه اعتاد ان يذهب الى مواضع التنزه منفردا عن اصحابه بعد صلاة العصر. ومثال لتعلق الناس بالترويح عن النفس حتى في احلك الظروف ما ذكره ابن تغري بردي، ان في سنة 873 هجرية/ 1468 ميلادية كانت الدولة تستعد للقيام بحملة ضد "سوار" حاكم احدى الدويلات التركمانية المجاورة لحدود السلطنة المملوكية في الشام إلا "ان جماعة ممن ليس لهم مروّة ولا عرض تفضل ان تتنزه وتدور في المتفرجات واكثرهم من العوام والاطراف". ومثال آخر يبين تعلّق الناس بالمتنزهات وانتهازهم الفرص للهو والمرح حتى في أحلك الظروف ما ذكره الجبرتي انه في ايام عثمان باشا الحلبي اشيع في الناس في يوم الاربعاء الرابع عشر من ذي الحجة آخر سنة 1147 هجرية/ 1735 ميلادية ان يوم القيامة سيوافق يوم الجمعة وفشا هذا الكلام في الناس قاطبة حتى في القرى والارياف، وودّع الناس بعضهم بعضا ويقول الانسان لرفيقه "بقي من عمرنا يومان" وخرج الكثير من الناس والمخاليع الى الغيطان والمتنزهات ويقول بعضهم لبعض "دعونا نعمل حظا ونودع الدنيا قبل ان تقوم القيامة". كان الخروج الى النيل للتنزه على صفحات مياهه وعلى جزره والخطط التي على شاطئيه مثل منشأة المهراني يأتي في مقدم الاماكن المفضلة للفرجة والترويح عن النفس خلال العصرين المملوكي والعثماني. وكانت مظاهر تلك النزهات على ابدع ما يكون ايام "وفاء النيل"، وكان خاصة اهل القاهرة وعامتهم ينعمون في اللهو والقصف الفرحة وما يصاحب ذلك من مجالس غناء وعزف ورقص وموسيقى وأطعمة وأشربة عدة. وكانت صفحة مياه النيل تعج بمئات من مراكب النزهة المسماة بالشخاتير والحراقات والذهبيات والشواني. وكانت اجمل تلك الايام هي ايام خروج السلطان وكبار الامراء اذ تقام مهرجانات اشبه بالاعياد وقد حرص معظم السلاطين على ذلك في العصر المملوكي، وبعض ولاة مصر من العصر العثماني. واذا تتبعنا سيرة السلطان المؤيد شيخ نجدها مثالا جليا لما كان يحدث في العصر المملوكي من مظاهر التنزه، إذ قد يبقى متنقلا على صفحات النيل وشواطئه شهرا متواصلا رغم الآلام التي كان يعاني منها بسبب مرض رجليه، فكان يُحمل على محفة او على الاعناق. وكان يصحب اهله وحاشيته حتى انه جعل مراسم الدولة تتم هناك على النيل، وكان يتنقل ما بين بيت وزيره ابن البارزي في بولاق، الى قصره شمال امبابة الى الجزيرة الوسطى الى الميدان السلطاني ومنشأة المهراني امامها، والى قصر ابن الخرنوبي في الجيزة المواجه للمقياس، الى جزيرة الروضة الى رباط الآثار متنقلا في المركب المسماة "الذهبية" أي التي يذهب بها للاحتفال بوفاء النيل وحوله حراريق مراكب الامراء المزيّنة بأحسن زينة ويجتمع الناس على اختلاف طبقاتهم وطوائفهم، للتفرج حيث يمتلئ البران بهم ما بين بولاق وامبابة شمالا الى مصر القديمة والجيزة جنوبا. وتقام المهرجانات المبهرة اذ يلزم المؤيد الامراء باحضار الزيت والنفط ويلزم العامة بإشعال مسارج الفخار بالزيت والنفط وعمل مسارج ايضا من قشر البيض وقشر النارنج، وقد انغمست فيها فتائل القطن بالزيت، وتشعل بالنيران ثم ترسل بعد غروب الشمس بنحو ساعة وتطلق النفوط والمدافع والصواريخ وتشعل وقدات نفط هائلة في بري امبابة وبولاق، ويزدحم النيل بمراكب المتفرجين الذين يخرجون في التهتك عن الحد ولا سيما ان تلك المهرجانات كانت تجري بأمر سلطاني. وكانت جزيرة الروضة عروس المتنزهات لما تمتعت به من موقع فريد ولمواجهتها مدينة الفسطاط من الشرق ومدينة الجيزة من الغرب، وبما حوته من بساتين وقصور، وكذلك لوجود مقياس النيل فيها وهو كان اهم مكان في مصر الاسلامية، لان حياة المصريين كانت متوقفة على فيضان النيل. وقد وصف السيوطي الجزيرة بقوله "هي روضة ذات محاسن فيها انهار من ماء غير آسن، واشجار تنبت أفانين الأحاسن، وازهار ما بين مفتوح العين ووسن، واطيار ترنم للغات يعجب منها كل فصيح ولسن، وهي ذات نغمات وألحان، وقضاء اوطار وضرب اوتار، وتختص الروضة من بين سائر الاقطار بيوم هو لها يوم عيد وهو يوم الزينة، ما ادراك ما يوم الزينة، يوم يحشد له الناس، ويحج فيه الى المقياس". ونافست جزيرة اروى المعروفة بالجزيرة الوسطى الزمالك حالياً جزيرة الروضة في العصر المملوكي في الاحتفالات والتفرج بها، وكذلك جزيرة "حليمة" التي ظهرت في النيل سنة 747 هجرية شمال جزيرة "اروى" واندمجت فيها في ما بعد، وقال المقريزي عنها "وتظاهر الناس بكل قبيح بها وبلغ مصروف كل خُص شاليه بتعبير اليوم من ألفين الى ثلاثة آلاف درهم وعمل كل خُص بالرخام والدهان البديع وُزرع حوله المقاشي والرياحين واقام بها معظم الناس بين الباعة والتجار وغيرهم وكشفوا ستر الحياء وبالغوا في التهتك بما تهوى انفسهم فيها. وفي جزيرة الذهب اجتمع من البغايا والاحداث وانواع المنكرات وما لا يمكن حكايته وانفق الناس بها اموالا تخرج عن الحد في الكثرة وكانت الامراء والاعيان تسير بها ليلا". وهناك احتفالات نيلية في العصر المملوكي صارت تقليدا وعادة اتبعت في ثلاث مناسبات متعلقة بالاسطول، الاولى ايام الانتهاء من صنع المراكب الكبيرة والثانية يوم خروجها للغزو والثالثة يوم عودتها. وكان بعض السلاطين حريصين على متابعة عمارة المراكب المعدة للغزو او لتأديب قراصنة البحر الابيض المتوسط منهم الظاهر بيبرس والأشرف برسباي والأشرف اينال. كانت مراكب الاسطول وسفنه تقوم بعمل استعراضات بحرية كبيرة ومناورات على القتال البحري فيحتشد خاصة المصريين وعامّتهم من كل مكان للفرجة بأعداد غفيرة ويستأجر الناس المراكب في هذه الايام بأغلى كثيرا من قيمة تأجيرها في الايام العادية، وتقوم السفن بدق الكوسات موسيقى نحاسية واطلاق النفوط وكأنها في اشتباك حقيقي مع سفن العدو. ويأتي على رأس البرك التي كانت مقصد الناس للتنزه في القاهرة بركة "الحبش" التي كانت من اجمل متنزهات مصر الاسلامية، وهي جمعت بين طوائف المجتمع المصري على اختلاف اجناسها وعقائدها وطبقاتها الاجتماعية من خلفاء وسلاطين وامراء وجنود واعيان وعامة. كما كانت هذه البركة وما يجاورها مكاناً للتريّض وإقامة المسابقات الرياضية بالخيول والجمال، كما كانت مسرحا لتدريب الجنود بالسلاح والرماح. وبالنسبة الى بركة "الرطلي" نجد انه رغم ان سكانها كانوا يمثلون طبقة متميزة في المجتمع في العصرين المملوكي والعثماني، الا ان العامة وبقية طوائف الشعب كانوا يشاركونهم في التنزه فيها. وكان الاحتفال هناك يجري على مدار العام ففي الصيف والخريف يكون فيضان النيل فتمتلئ تلك البركة بالماء وتدخلها مراكب النزهة، وفي فصل الشتاء والربيع كانت تزدهي بمنظر أخاذ من نمو الازهار والمزروعات والكتان مما هيّج احاسيس الشعراء فأفاضوا بالكثير من الاشعار في وصف هذه البركة وما حولها. وكان الناس يكثرون ايام الجُمع والآحاد في هذه البركة، وتدور بهم "الشخاتير" التي تدخل البركة عن طريق الخليج الناصري والخليج الكبير فتدور بأرجائها العامرة بالنشاط والحيوية. وكانت المراكب والبيوت حول البركة توقد ليلا بالقناديل فتحيل الليل نهارا. اما بركة "الازبكية" فقد عمرت عمارة عظيمة ايام السلطان قايتباي على يد ازبك الاتابكي، فنسبت اليه واقيمت فيها مهرجانات عظيمة في بقية العصر المملوكي. اما في العصر العثماني فقد كانت المتنزه الرئيسي للقاهرة اذ انه في موسم الفيضان كانت تعج صفحة مياهها بالناس في الشخاتير، وتقام احتفالات عظيمة في ربوعها في مناسبات مختلفة، وخصوصا أن معظم سكانها كانوا يمثلون أعلى طبقة في المجتمع في العصر العثماني. وزار مصر في العصر العثماني العديد من الرحالة وكلهم اثنوا على الازبكية بقصورها وبساتينها وما يتم فيها من احتفالات والعاب وترفيه. ومن اوائل الرحالة الذين زاروا مصر آنذاك ابن الوزان المعروف بليو الافريقي. وقد ذكر أن "عادة سكان القاهرة ان يجتمعوا كل يوم جمعة بعد الصلاة في الازبكية لانهم يجدون هناك بعض المسليات القبيحة كالحانات والعاهرات ويتجمع ايضا في هذه الساحة عدد كبير من البهلوانيين وخصوصاً من يرقصون بالابل والحمير والكلاب، وهو منظر ممتع حقاً، ويجتمع ايضا ضاربو السيوف والعصا والمصارعون وغير ذلك من وسائل التسلية والى جانبهم المغنون والمنشدون يتغنون بالوقائع بين العرب والمصريين اثناء فتح مصر". واهتم الرحالة الفرنسيون بزيارة الازبكية واعتبروها "من اجمل مناطق القاهرة، ومنازلها من أفخم المنازل وهي منطقة منخفضة عن القاهرة وتنتشر بها الاشجار الجميلة وفيها شوارع جميلة ومساجدها مزيّنة وعندما تمتلئ بركتها بالمياه يركب السكان المراكب ويتنزهون فيها". ورغم احاطة البركة بالقصور من جميع جوانبها، الا ان اصحاب الاملاك لم يمنعوا احداً من التنزه فيها. وفي هذا المعنى ذكر الجبرتي في كلامه عن القصر الذي انشأه السيد ابراهيم سعودي اسكندر والذي آل الى الألفي في ما بعد: "وجعل في اسفله قناطر وبوائك من ناحية البركة وجعلها برسم النزهة لعامة الناس فكان يجتمع فيها عالم من اجناس الناس واولاد البلد شيء كثير وفيها مقاهٍ وباعة وغير ذلك وتقف عندها مراكب وقوارب من تلك الجناس فكان يقع فيها وفي الجسر المقابل لها، من عصر النهار الى آخر الليل، من الحظ والنزهة ما لا يوصف". وكما سبق القول فإن المتنزهات كانت متاحة لجميع الناس بمختلف طبقاتهم الاجتماعية وان بعض القصور على البرك ابيحت لتنزه العامة مثل قصر السيد ابراهيم بن سعود على بركة الازبكية. نرى مثالاً آخر يحدث في بركة الازبكية فقد اباح قاسم بك للناس الدخول الى داره وحديقته العظيمة على البركة واباح لهم التنزه في رياضها والتفسح في غياضها والسروح في خلالها والتفيؤ في ظلالها وسماها "حديقة الصفصاف والآس لمن يريد الحظ والائتناس" ونقش ذلك في لوح من الرخام وثبّته في اصل شجرة ليقرأه الداخلون اليها، فأقبل الناس على الذهاب اليها للتنزه. وكانت الخلجان المتفرعة من النيل مواضع نزهة عظيمة في العصرين المملوكي والعثماني، خصوصا الخليج الكبير خليج امير المؤمنين والذي يعد احد متنزهات مصر الهامة منذ حفره سنة 23 هجرية وحتى تم ردمه نهائياً سنة 1898 ميلادية وكانت حول هذا الخليج خارج القاهرة بساتين وحقول ذات منظر أخاذ يدفع الناس الى الذهاب اليها بمراكبهم الصغيرة المسماة الشخاتير. وكانت قنطرة "بني وائل" متنزهاً هاماً، وايضا قنطرة "الاميرية" حيث يحتفل ايام "وفاء النيل" بافتتاح سدها وكان يجتمع عندها مدمنو المخدرات لذا سميت ب"قنطرة الحشاشين" والصور التي رسمها الرحالة تبين لنا الخليج وقد ملأته الشخاتيرعامرة بالمتنزهين بآلاتهم الموسيقية وكانت تحف شاطئيه المقاعد والمناظر الجميلة. وكانت الميادين متنزهات هامة خصوصا في العصر المملوكي وعرفت باستخدامات عدة فهي اماكن لتدريب الجيوش وتجمعيها واستعراضها، وهي ايضا متنزهات عامة ُتحشر بالناس في الاحتفالات والمواسم والاعياد ويتفرجون فيها على العاب الفروسية من سباق للخيل وطعن بالرمح ورمي بالسهم وللفرجة ايضا على الالعاب الرياضية بين فرق طوائف المماليك. ومن اهم تلك الالعاب لعبة الكرة من فوق الخيول التي تعرف اليوم بلعبة "البولو".