استعاد المشاهد السعودي تلفزيونه الرسمي لمدة ستين دقيقة. ليس تلفزيونه فحسب، إنما ما يريد لهذه القناة أن تكونه، في خضم التنافس المحموم بين التلفزيونات العربية الرسمية، والفضائيات الخاصة. ولئن رجحت غالبية الآراء فوز الفضائيات"الحرة"على التلفزيون الرسمي وفقاً لهامش الحرية الذي تتمتع به، وتنوع المادة الإعلامية وخروجها على الأطر، التي ظلت التلفزيونات الرسمية تعمل وتبث موادها ضمنها، ولم تتمرد عليها سوى نادراً. ذلك أن التلفزيونات العربية لا تزال تبدو قادرة على تجاوز نفسها، والإفادة من الإمكانات المتاحة أمامها، واستثمار الطاقات الشابة، التي تفد إلى الإعلام المرئي قادمة من حقول أخرى. ففي ما يشبه الانتفاضة، قدم التلفزيون السعودي ستين دقيقة من العمل الإعلامي المتميز، الذي لا تنقصه المهنية، ولا تعوزه الاحترافية."60 دقيقة"هو عنوان البرنامج الذي يبث أسبوعياً، مرة من مدينة الرياض وأخرى من مدينة جدة. لكن الحلقة الأخيرة والتي بثت من جدة، في الساعة الواحدة والنصف صباحاً، تميزت كثيراً، ومثلت ليس فقط نموذجاً للعمل المهني، إنما مثالاً للوفاء واستعادة الرموز الفكرية والأدبية والثقافية، حتى بعد أن خطفها الموت. فقد كرست الحلقة للحديث عن الأديب الراحل عبدالله الجفري، الذي وافته المنية ثاني أيام عيد الفطر المبارك. استطلعت الحلقة، التي أعدتها وقدمتها في شكل لافت الشاعرة حليمة مظفر، آراء عدد من المثقفين والإعلاميين والوزراء السابقين، مثل وزير التخطيط السابق هشام ناظر، سفير السعودية حالياً في القاهرة، ووكيل وزارة الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز السبيل، وكتّاباً صحافيين، مثل يحيى باجنيد، وقينان الغامدي، كما تحدث عن الراحل أولاده وجدي ونضال وزين. وفي الأستديو استضافت حليمة مظفر الناقد عثمان الصيني. كل هذا إضافة إلى بث مشاهد للراحل وهو يمارس التأمل والكتابة اليومية تارة، أو هو يقود سيارته تارة أخرى، وحيناً كان يعلق حول عدد من القضايا التي تهمه وانشغل بها ردحاً من الزمن. تحدث كل واحد من هؤلاء عن جانب بدا حيوياً ومؤثراً في حياة الجفري، أكدوا ابتداعه أسلوباً جديداً في الصحافة السعودية، وإثراءه لها برؤى ومقترحات جديدة. تطرقوا إلى جهوده المتميزة في تجديد فن القصة والرواية في السعودية، وحقنها بلغة وتقنيات لم تعرفها من قبل، فأضحى رائداً من رواد الأدب السعودي الحديث. لكن الحديث لم يخل من المرارة، بخاصة عندما تحدث ابنه عن خيبة الجفري في بعض أصدقائه الذي انصرفوا عنه عندما وقع مريضاً، وذكر الدكتور الصيني مواقف واجه فيها الراحل مؤامرات من البعض، عبر مواضيع مختلقة من زملاء له عندما كان يعمل في الصحافة... فيما عجز الأبناء عن التعبير عما عناه لهم والدهم، فقالوا كلاماً يرسخ حساسية هذا الأديب الذي كتب بلغة رهيفة، ومشاعر جياشة، أكدوا حنوه عليهم، حرصه على سعادة أولاده وأحفاده، كرهه للحزن وميله الدائم إلى الابتهاج والفرح. بدا إعداد الحلقة، التي غطت الحدث من زوايا عدة مدعاة للتفاخر، بخاصة عندما نتذكر الوقت القياسي الذي تم فيه الإعداد. قدم التلفزيون السعودي على نحو لافت، ما تجاهلت بعض الفضائيات العربية عمله، هذه الفضائيات التي عادة ما تبث تقارير عن شخصيات ثقافية عربية رحلت، لكنها نسيت الجفري، فتذكره تلفزيون بلده.