حظيت قمة منظمة شنغهاي الثامنة للتعاون التي انعقدت في العاصمة الطاجيكية دوشانبيه باهتمام دولي كبير، كونها جمعت قادة دول يشاركون موسكو في تحفظاتها على الدور الغربي في وسط آسيا، ولذلك أُعتبرت نواة تجمع إقليمي مضاد لواشنطن ومهدد لتغلغلها في آسيا الوسطى والقوقاز. تضم منظمة شنغهاي للتعاون 6 دول، وهي روسيا وكازاخستان والصين وقيرغيزستان وطاجيكستان واوزبكستان، بالإضافة الى 4 دول أخرى بصفة مراقب وهي الهندوإيران ومنغوليا وباكستان، كما حضر القمة رئيس أفغانستان كضيف. وقد وقع رؤساء البلدان الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون في ختام قمتهم التي عقدت في 28 آب اغسطس الماضي عدداً من الوثائق المشتركة، بما فيها إعلان مشترك، وبيان ختامي، ويتضمن الإعلان رؤية مشتركة للوضع في العالم والمنطقة، ويؤكد تمسك بلدان المنظمة بمبادئ الالتزام الصارم بميثاق منظمة الأممالمتحدة وقواعد القانون الدولي ورفض سياسة الأحلاف، وأكد المشاركون في القمة أن المراهنة على القوة لتسوية النزاعات الإقليمية يعيق التوصل الى تسوية شاملة لتلك النزاعات. وأبدت بلدان منظمة شنغهاي استعدادها لتوسيع التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وكذلك تعميق التعاون في المجالين الاجتماعي - الاقتصادي والإنساني، ووقع المشاركون في القمة اتفاقاً حول إجراء تدريبات مشتركة لمكافحة الإرهاب، واتفاقاً للتعاون بين حكومات بلدان المنظمة في مكافحة التجارة غير الشرعية للأسلحة والمخدرات. والأبرز كان قرار تشكيل فريق من الخبراء يتولى شؤون توسيع المنظمة، وجاء في البيان الذي صدر في اختتام القمة:"سيتحول العمل مع البلدان التي تتمتع بصفة مراقب في المنظمة - الهندوإيران ومنغوليا وباكستان - الى مستوى نوعي جديد"، وهو مستوى شريك في الحوار. وكان الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف يعقد آمالاً عريضة على قمة منظمة شنغهاي في العاصمة الطاجيكستانية دوشانبيه، الا ان هذه الآمال سرعان ما تبددت، فقمة شنغهاي لم تدعم استقلال اوسيتيا الجنوبية وابخازيا بل أعلنت رفض استخدام القوة في العلاقات الدولية، ورفضت تهديد وحدة أراضي واستقلال البلدان الأخرى. وجاء دعم روسيا لاستقلال الأقاليم الانفصالية في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، مشابهاً لدعم الولاياتالمتحدة الأميركية لانفصال إقليم كوسوفو في النصف الأول من هذا العام، والذي طالما وصفته موسكو بسابقة الانفصال، وهو ما تعارضه الصين بشدة، لتجنب أي تساؤلات في قضايا التيبت وتايوان وتسينغيانغ، فالصين مفرطة الحساسية تجاه مطالب الانفصال. وكذلك، فإن عودة موسكو وبقوة الى الساحة الدولية يعني أنها قد تحاول أيضاً تعزيز نفوذها في منطقة آسيا الوسطى، التي طالما سعت الصين لتعزيز نفوذها فيها، ولتقوية العلاقات مع دولها من خلال منظمة شنغهاي للتعاون. الصين تخشى محاولات روسيا أن تفرض نفسها من جديد على الدول الست التي تشكل منظمة شنغهاي للتعاون التي تأسست عام 2001 لإبعاد النفوذ الأميركي عن آسيا الوسطى، وكان لهذه المنظمة دورها في حل نزاعات حدودية وتنظيم تدريبات عسكرية مشتركة وتطوير التعاون في مجال الطاقة والنقل. وتعتمد الصين على دول آسيا الوسطى للحصول على النفط خصوصاً كازاخستان ومحاربة الإرهاب من خلال قمع تحركات الايغور في هذه المنطقة والتي تحشد الدعم لاقليم تسينغيانغ الانفصالي، ومن أجل مكافحة الحركة الانفصالية والتطرف، وبمبادرة من بكين في العام 1996 تشكلت منظمة"خمسة شنغهاي"الصينوروسيا وطاجيكستان وقيرغيزستان وكازاخستان الساعية الى تعزيز الثقة والأمن في مناطقها الحدودية. وبانضمام اوزبكستان الى المنظمة في عام 2001 تغير وضع المنظمة واسمها، وأعلن قادة الدول الست تشكيل"منظمة شنغهاي للتعاون". واضح ان الصين تريد استخدام منظمه شنغهاي لإحكام سيطرتها الاقتصادية على منطقة آسيا الوسطى، كما انه من الواضح ان دول آسيا الوسطى مهتمة بتنامي النفوذ الصيني في المنطقة، بهدف الموازنة بين هذا الدور وبين روسياوالولاياتالمتحدة اللاعبين العملاقين الآخرين في المنطقة. حتى ان الرئيس الصيني هو جينتاو لم يتطرق خلال لقائه نظيره الروسي ديمتري ميدفيديف في دوشانبيه على هامش أعمال قمة شنغهاي بتاتا الى الأزمة في القوقاز، واكتفى بتأييد استضافة روسيا الألعاب الأولمبية في سوتشي 2014. اما الناطق باسم الخارجية الصينية تسين غان، فاكتفى عشية القمة بالقول:"تأمل الصين بأن تصل الأطراف المعنية بالنزاع في القوقاز الى حل سلمي عبر الحوار والمشاورات". واذا استوعبت الجمهوريات السوفياتية السابقة درس جورجيا فإنها ستبدي خضوعاً أكبر لموسكو، وهو الشيء الذي لا يروق لبكين... وتقول رنا ميتر من جامعة أكسفورد، إن الصين:"تحتاج بشدة إلى أن تنتهي هذه الأزمة. فسيادة الصين على أراضيها هي خط احمر لا يكسر في علاقاتها الدولية". كما ان تدخل موسكو عسكرياً في إحدى الدول السوفياتية السابقة لحماية ما سمته"المواطنين الروس في تلك الدولة"اقلق وأخاف معظم الدول المجاورة لروسيا حيث يشكل الروس نسبة لا يستهان بها في معظم الدول السوفياتية السابقة تصل في بعضها الى 40 في المئة مثل كازاخستان، كما ان قرار البرلمان الروسي تسهيل منح الجنسية الروسية للروس المقيمين خارج روسيا يأتي في السياق نفسه، إضافة الى ان لمعظم دول آسيا الوسطى في منظمة شنغهاي، علاقات اقتصادية كبيرة، وعلاقات عسكرية كذلك مع واشنطن ومع الناتو، لا سيما في إطار برنامج الشراكة من اجل السلام، وكذلك علاقات اقتصادية واستثمارية مع جورجيا نفسها، لا سيما كازاخستان الدولة ذات الإمكانات الأكبر في آسيا الوسطى. لذلك كان تأييد منظمة شنغهايلروسيا ليناً وخجولاً وبعيداً من الأطر الرسمية، فقد أعلنت المنظمة تأييدها ما سمته الدور الروسي الفعال في تحقيق الأمن في القوقاز، ودعا البيان الختامي للقمة إلى احترام مبدأ وحدة أراضي الدول، وتبني الحلول السلمية لأزمة القوقاز. ويرى غليب بافلوفسكي رئيس مؤسسة السياسة الفعالة في روسيا، انه كان يجب على روسيا ان تبدد المخاوف في شأن الوضع في ابخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وقال بافلوفسكي في تصريح الى وكالة"انترفاكس"الروسية:"على روسيا إيضاح ان موقفها لا يعني دعم الحركات الانفصالية، وان أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية لم تكونا أصلاً ضمن الجمهورية الجورجية". الأكيد ان الهيمنة الأميركية وقفت عاجزة في مواجهة روسيا الجديدة التي ألحقت هزيمة كبرى بجيش جورجيا القوقازية، المجهز، والمدرب من قبل الولاياتالمتحدة، الأمر الذي كرس عودة روسيا، وبپ"قوة السلاح"الى الساحة الدولية، فيما كانت الهزيمة الجورجية هزيمة لاحد حلفاء واشنطن. اعتراف موسكو باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، ليس الا تحصيل حاصل، في ظل المواجهة العسكرية والحرب القصيرة بين روسياوجورجيا، فالإقليمان خارجان منذ زمن طويل عن السيطرة الجورجية، وهما مستقلان بحكم الواقع منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، مع توقع ان تؤيد فنزويلا وكوبا وبيلاروسيا، وحتى تركيا الموقف الروسي... وما يجري ليس حرباً باردة جديدة، فقد نكون أمام قطبين عسكريين نوويين متنازعين، مع غياب الايديولوجية، وتبعثر الحلفاء، وتحول النزاع الى حدائق روسيا الخلفية. انه صراع على مصالح استراتيجية، وتشكل الطاقة محور الصراع الجديد، في حين كانت الإيديولوجيا نواة الصراع السابق. مصادر روسية مستقلة تقول ان سبب استعجال روسيا الاعتراف باستقلال ابخازيا واوسيتا الجنوبية، سببه الخشية من ظهور نخبة بين الجنرالات ورجال الاعمال الروس تبدي غضبها لعدم تحقيق نصر عسكري حاسم وكاسح على جورجيا، فقبول تبليسي السريع بوقف اطلاق النار، مكّنها من الحفاظ على جزء كبير من قوتها العسكرية، وبنيتها التحتية، كما ان الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي بقي على رأس السلطة في جورجيا وكسب المزيد من التعاطف والتأييد الغربي، وهما الأمران اللذان لا يخدمان المصالح الروسية. لذلك كان الاعتراف الروسي السريع باستقلال الاقاليم الانفصاليه، لإسكات الداخل الروسي من جهة، ومن جهة أخرى لإشغال جورجيا في أزمات داخلية، كلما فكرت بالاقتراب من الناتو وجعل الغرب ينظر اليها كمنطقة غير مستقرة لمرور خطوط انابيب الطاقة التي تتجاوز الاراضي الروسية. واعتبر الرئيس الايراني احمدي نجاد خلال قمة شنغهاي في دوشانبيه ان الازمة في جورجيا سببها التدخل الخارجي، منتقداً وبشدة التغلغل الاميركي في القوقاز وداعياً منظمة شنغهاي لملء الفراغ الذي خلفه النظام الدولي الحالي بعجزه عن حل المشكلات العالمية. وفي السياق ذاته نقلت صحيفة"ايزفيستيا"الروسية عن خبراء استراتيجيين قولهم ان اميركا كانت تخطط لاستخدام الأراضي الجورجية كمركز لوجستي لدعم أي سيناريو عسكري ضد إيران. وهناك من يعتقد بأن الرئيس الجورجي ساكاشفيلي حصل على ضوء اخضر من الولاياتالمتحدة لشن حربه على اوسيتيا الجنوبية، وواشنطن التي تخطط لتوجيه ضربة لإيران أرادت من وراء ذلك إثبات دعمها وتأييدها لساكاشفيلي لضمان موافقته على تحويل جورجيا الى مركز رئيسي لدعم أي سيناريو عسكري أميركي ضد إيران، خصوصاً بعد ان أبدت تركيا ترددها في مواكبة مثل هذا السيناريو، كما رفضت جمهوريتا أذربيجان وارمينيا تقديم أية تسهيلات للقوات الأميركيه في هذا السياق. وبحسب ما يرى العديد من الخبراء الاستراتيجيين أعطت أميركا الضوء الأخضر لساكاشفيلي وهي لم تضع في حساباتها أي رد فعل روسي جدي، وهنا ارتكبت هي وساكاشفيلي خطأً كبيراً في تقويم الموقف الروسي. والواقع ان الرئيس الجورجي اراد الاستفادة من حاجة أميركا لإيجاد مركز انطلاق في اي سيناريو عسكري ضد ايران، لتحقيق هدفه في استعادة منطقتي اوسيتيا الجنوبية وابخازيا بالقوة، وأميركا تصورت ان الأمر لن يكلفها وحليفتها الجورجية شيئاً، وهنا جاء الرد الروسي ليقلب كل هذه المعادلات، وبالطبع أدت هذه الحرب ونتائجها الى فرض واقع جديد لا على صعيد المنطقة فحسب بل على صعيد المعادلات الدولية أيضاً.