قلما تجد بين كتّاب اليوم من هو أكثر غزارة في التأليف مثل ادوارد سعيد. فقد ألّف ما يزيد على أربعة وعشرين كتاباً في مواضيع عدة ومتشعبة، من النقد الأدبي الى السياسة في الشرق الأوسط مروراً بالأوبرا والسينما والموسيقى. وقد اشتهر بالقدرة على التواصل مع جمهور واسع من المثقفين وغير المثقفين، بغض النظر عن موضوع كتاباته سواء كانت مقالات أم كتباً، أو كانت عن جوزف كونراد، أو ريتشارد فاغنر أو قضية فلسطين. أما الكتاب الذي تصدره اليوم دار الآداب بعنوان"السلطة والسياسة والثقافة"، بترجمة نائلة قلقيلي حجازي، فهو يضم مجموع حوارات أجراها ادوارد سعيد خلال العقود الثلاثة الماضية، وتشكل ردود ادوارد على ما كتبه في مؤلفاته ومقالاته وتعكس عفوية مثل هذه اللقاءات التي تتمثل بلغة الحوار المباشر، وبأسلوب السؤال والجواب، والذهاب والإياب، واللف والدوران، وتوضيح النقاط أو المواقف ثم اعادة التوضيح. كما تعكس التحدّي والتحدّي المضاد بين المحاور والضيف المتحاور معه. وما يلفت الانتباه في هذا الكتاب. ليس عدد الحوارات التي أجراها سعيد مع الصحافة المطبوعة والمذاعة المسموعة منها والمرئية بل عدد الأمكنة التي أجريت فيها تلك الحوارات، من آسيا والشرق الأوسط الى أوروبا والولايات المتحدة. وهي حوارات تؤكد وجود سعيد على الساحة الدولية كأبرز المثقفين العرب في عصرنا، وكرجل يثير اهتمام الجماهير بإنسانيته المتوقدة، وثقافته العميقة، والتزامه الثابت بحق الفلسطينيين في تقرير المصير. تُقسِم جامعة الحوارات غاوري فسوا ناتات الكتاب الى قسمين بغاية الإيضاح، وهما"الأداء والنقد"وپ"العلم ومذهب الفعالية"غير أن هذا التمييز يلامس حدود الاعتباطية لأن سعيد نادراً ما يتحدث عن الأدب من دون التطرّق الى السياسة، والعكس صحيح. لكن الغاية منه على ما يبدو هو تسهيل فهم القارئ للنظائر والخطوط المتشابكة في كثير من الأحيان لتطوّر السياسة والثقافة، وترتيب الحوارات وفقاً لتسلسلها الزمني ابتداء من فكره الذي أنتج أعمالاً كپ"البدايات"وپ"الاستشراق"وپ"الثقافة والإمبريالية"، إضافة الى كتاباته عن الأوبرا والأداء، مروراً بكتاباته وتصريحاته عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وانتهاء بخيبته من قدرة الفلسطينيين واليهود على تحقيق السلام العادل والدائم. يكشف سعيد في احد حواراته انه بدأ حياته متأثراً بسارتر وميرلو بونتي وهوسرل. وقد ساعده هؤلاء الفلاسفة في كتابه الأول"جوزف كونراد وأدب السيرة"على فهم أن الأشكال الأدبية تحدث ضمن سياق معيّن، ضمن بيئة متكاملة. لكن هذا الفهم ما لبث أن تعمّق أكثر من خلال الاهتمام بالجغرافيا وانعكساتها في الأدب. بكلام آخر. بنى هيغل مفهومه لتفسير الأشكال الأدبية على الزمان والتاريخ، بينما كشف ادوارد سعيد أن المفهوم الأكثر ارتباطاً في تفسير الأشكال الأدبية هو الجغرافيا لما لها من أثر في تكوين هذه الأشكال. يقول أدوارد سعيد:"لا يعني الاهتمام بالجغرافيا والمكان والأرض ألا تكون مهتماً بالتاريخ أيضاً. أنا مهتم فعلياً بالتفاعل بين كليهما، لكني أعطي الأولوية، وهذه حقيقة، للجغرافيا، اذ يبدو لي أن تاريخ القرون الثلاثة الأخيرة تاريخ عالمي وپ"عولمي"فعلاً. واهتمام سعيد بالجغرافيا، لا يفهم خارج تعلّقه بالأرض الأم فلسطين التي طُرد منها، باكراً فاضطر مع عائلته أن ينتقل الى بيروت ثم الى مصر فالولايات المتحدة. أرى تاريخي الخاص، وتاريخ شعبي، دلالة على ذلك النضال من أجل الأرض. ان فهم علاقة الأرض، أرضه بسياسة الاحتلال اليهودي، هو الذي سيبدو اللازمة التي لا تني تتردد في كل الحوارات التي ضمّها الكتاب. فهو يعتبر أن كتابه عن"الاستشراق"يتحدث عن الرؤية الأوروبية للشرق. رؤية مختلفة عن الرؤية المحلية لتلك الجغرافيا. يقول ادوارد سعيد في هذا السياق:"لم أكن دائماً منفياً ومشرداً. لطالما شعرت بعض الشيء بالانقسام، لأني أنحدر من أقلية مسيحية، فيما سكان فلسطين بغالبيتهم مسلمون، لذلك طالما ساورني شعور بأني منحرف عن المسار، خارج المركز، وزاد من غرابة الموقف ككل أني ذهبت الى تلك المدارس وأتقنت النطق باللغتين الانكليزية والفرنسية، لذلك شعرت نوعاً ما بأني غريب، ورجّع الأدب صدى ما كنت أشعر به". من ترجيح هذه الأصداء التي شعر بها دائماً سعيد كتابه عن"الثقافة والإمبريالية"الذي فكك فيه نزعات هيمنة الآخرين على الأرض. يقول سعيد في هذا السياق:"ثمة جديد في هذا الكتاب، في ما يخصّ أعمالي السابقة، ألا وهو الإرادة المضادّة بالطبع، أي ارادة الآخرين لمقاومة ارادة الإمبريالية. اكتشفت ذلك من خلال تجربتي، ضمن جماعتي كالجالية الفلسطينية مثلاً وفي أماكن أخرى من العالم الثالث، وفي ارلندا"ثم يوضح في مكان آخر أمام محاوره:"كتاب""الثقافة والإمبريالية"مبني على رحلات، وتجارب أوحت لي، بطريقة مباشرة، بوجود ارادة مضادة، لها دور في اللعبة طوال الوقت، لكني كنت في حاجة الى وسيلة، أو أسلوب، لتصوير كليهما، أي الهيمنة والمقاومة، الإرادة والإرادة المضادة". يوضح ادوارد سعيد في أكثر من حوار ضمّه كتاب"السلطة والسياسة والثقافة"أن المثقف لا يمكن أن ينتج معرفة منقطعة عن جذور مزروعة في عمق مادية التاريخ وجغرافية المكان، وأن المعرفة الأدبية أو أيّة معرفة أخرى لا يمكن رؤيتها كشيء مجرد، بل كشيء منبثق من حاجة وجودية، تختلط فيها السياسة بالاجتماع. يكتب سعيد:"أعتقد بأن على المرء أن يفهم فعلاً هيكليات المعرفة التي ساهم بها الرجال والنساء... تعلّمت ذلك مبكراً جدّاً من فيكو، الذي يجعلك تدرك ان التاريخ ليس مُنزلاً أو مقدساً، بل انه من صنع الرجال والنساء"ويضيف سعيد شارحاً موقفه بالقول:"أنا شديد الاهتمام بالعملية التي ينتج بها الناس الأشياء. لذلك أعتقد بأن تلك هي الخطوة الأولى، ومن ثم اعتقد بأن الخطوة الثانية هي أن تكوّن بالتدريج وجهة نظر، وليس فقط لأنك تبحث عن زاوية ما، بل لأنك تشعر بترابط ما معها في حالتي أنا قضية فلسطين. وفي حديثه مع أحد محاوريه يكشف ادوارد سعيد أنه لا يكتب لجهة ما أو لشخص ما، بل يكتب بمناسبة ما، وبالتالي فهو لا يتوجّه بالتأكيد الى صانعي السياسة. فأنا في أميركا أُعدّ فعلياً خارج الإجماع وقراؤه عادة أناس يساريون خارج الإجماع أيضاً يبحثون عن بدائل للنظرة العالمية السائدة. أما بالنسبة الى القراء العرب، فهو يحاول أن يوسّع الدائرة قدر الإمكان، وتغيير وجهات النظر المنغلقة على التاريخ:"أنا لا شيء من دون القاعدة التاريخية. لطالما قلت ان دراسة الأدب هي في الأساس علم تاريخي. لا جدوى من فصل أحدهما عن الآخر. هناك توتر دائم بين عالم الجمالية وعالم الحركة التاريخية، وأنا مهتم بتفسيره". ثم يوضح العلاقة بين التاريخ والأدب بالقول: تشمل عملية الكتابة ككل، سواء في الأدب كانت أم في التاريخ، تمحيص الدلائل للوصول في النهاية الى ترجمات". من التاريخ، كعلم للأحداث، يدلي ادوارد سعيد برأيه في تاريخ الثقافات رداً على الأميركي صموئيل هانتينغتون الذي اعتبر ان الثقافات أو الحضارات اليوم مختلفة الى حدّ كبير، وعلينا القبول بفكرة أنه سيكون هنالك صدام بينها وأنها عاجزة عن التواصل إلا من خلال التعارض، بل الإبادة أحياناً. تقوم نظرة سعيد الى تاريخ الثقافات على القول انه اذا تمّ النظر الى تاريخ الثقافات نظرة مطوّلة، يتبين أن الثقافات ليست معزولة، بل مفتوحة على كلّ الثقافات الأخرى. وأن القول مع بعض المؤرخين أن ثمّة شيئاً اسمه الثقافة الغربية، وهي مستقلة عن كل الثقافات الأخرى. هو هراء تام، وغير صحيح من الناحية التاريخية، وهو تزييف للتجربة الإنسانية والتاريخ الإنساني. ولذلك يبدو، كما يذكر سعيد، ان أهمّ الدوافع في الكثير من أعماله، سواء في"الاستشراق"أم"مسألة فلسطين"، هو محاولة كشف الجذور التاريخية لصدام الثقافات من أجل تسويق امكان الحوار بين الثقافات. ان اطلاق فكرة امكان الحوار بين الثقافات بالبناء على معطيات التاريخ بصورة ان الثقافات تتواصل في ما بينها وتتكامل يستفيد منه ادوارد سعيد في معالجته لحلّ الصراع بين العرب واليهود، ان على المرء مقاومة فكرة العداء بين الثقافة الفلسطينية والاسرائيلية من باب"انها مسألة قديمة"أو أنها"متجذّرة"في تقاليد هاتين الثقافتين، ولكن من باب إنها وجوديّة، إذ الكل يرفض الآخر في حين يجب الاعتراف بالآخر وبتواصل الثقافتين وتكاملهما عبر التاريخ. يثبت الكتاب الذي ضمّ حوارات ادوارد سعيد مع كتّاب وصحافيين خلال العقود الثلاثة الماضية أن لا كتب سعيد ولا مقالاته، ولا ما كتب عنه تحدّ من عقل هذا الرجل الذي أثار عالم السياسة والأدب بآرائه الصاعقة عن الاستشراق، وامتحان الذات في آن واحد، سعيد صوت رائع في النقد المعاصر.