هل بدأ زيلينسكي مرحلة تقديم التنازلات؟    "التعاون الإسلامي" تشارك في اجتماع التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين في بروكسيل    مغادرة الطائرة ال26 إلى لبنان ضمن الجسر الجوي الإغاثي السعودي    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على 5 مناطق بالمملكة    تنفيذ حُكم القتل في مواطنين خانا وطنهما وانضما لكيان إرهابي    "وفد سعودي" لتعزيز التعاون الاقتصادي في طاجيكستان    "بلاغات الأدوية" تتجاوز 32 ألفًا في شهر واحد    «فيفا» يعلن حصول ملف استضافة السعودية لكأس العالم 2034 على أعلى تقييم في التاريخ    أستراليا تحظر «السوشال ميديا» على الأطفال    سكري القصيم «عقدة» رائد التحدي    استهداف 34 ألف لاعب تتراوح أعمارهم بين 6 إلى 9 سنوات    نائب رئيس مجلس الإفتاء السويدي: المملكة ناصرة للدين الإسلامي    بحضور وزير الرياضة.. انطلاق منافسات سباق "سال جدة جي تي 2024"    «الإيدز» يبعد 100 مقيم ووافد من الكويت    معرض "أنا عربية" يفتتح أبوابه لاستقبال الجمهور في منطقة "فيا رياض"    باكستان تقدم لزوار معرض "بَنان" أشهر المنتجات الحرفية المصنعة على أيدي نساء القرى    مطارات الدمام تدشن مطارنا أخضر مع مسافريها بإستخدام الذكاء الاصطناعي    انطلاق فعاليات معرض وزارة الداخلية التوعوي لتعزيز السلامة المرورية    ديوانية الأطباء في اللقاء ال89 عن شبكية العين    الحملة الشعبية لإغاثة الفلسطينيين تصل 702,165,745 ريالًا    ندى الغامدي تتوج بجائزة الأمير سعود بن نهار آل سعود    أمير منطقة تبوك يستقبل رئيس واعضاء مجلس ادارة جمعية التوحد بالمنطقة    مدني الزلفي ينفذ التمرين الفرضي ل كارثة سيول بحي العزيزية    مدني أبها يخمد حريقًا في غرفة خارجية نتيجة وميض لحظي    الجبلين يتعادل مع الحزم إيجابياً في دوري يلو    "أخضر السيدات" يخسر وديته أمام نظيره الفلسطيني    حرمان قاصر وجه إهانات عنصرية إلى فينيسيوس من دخول الملاعب لمدة عام    الأهلي يتغلب على الوحدة بهدف محرز في دوري روشن للمحترفين    البنك المركزي الروسي: لا حاجة لإجراءات طارئة لدعم قيمة الروبل    6 مراحل تاريخية مهمة أسست ل«قطار الرياض».. تعرف عليها    المملكة تفوز بعضوية الهيئة الاستشارية الدولية المعنية بمرونة الكابلات البحرية    نعيم قاسم: حققنا «نصراً إلهياً» أكبر من انتصارنا في 2006    "مكافحة المخدرات" تضبط أكثر من (2.4) مليون قرص من مادة الإمفيتامين المخدر بمنطقة الرياض    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    السعودية تتسلّم مواطنًا مطلوبًا دوليًا في قضايا فساد مالي وإداري من روسيا الاتحادية    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    والد الأديب سهم الدعجاني في ذمة الله    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    بالله نحسدك على ايش؟!    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قضيتها تثير أوضاع عشرات المواقع المهملة . مدينة البصيرة الأثرية في سورية تختفي تحت مبان حكومية ومنشآت حديثة
نشر في الحياة يوم 20 - 01 - 2008

عام 1903 عبر الرحالة وعالم الآثار الألماني ارنست هرزفيلد من منطقة تشكل رأس المثلث عند التقاء نهر الفرات برافده الخابور. توقف عند قرية صغيرة شرق سورية تدعى "البصيرة"، وشاهد فيها قلعة عسكرية مربعة الشكل مشيدة بالآجر لها أبراج في زواياها.
اليوم إذا حاولت القيام برحلة مشابهة إلى المكان نفسه، فلن تقع عينك على ما شاهده"هرزفيلد"ولن تجد القلعة التي تحدث عنها في كتابه"رحلة أثرية إلى الفرات ودجلة".
شواهد أثرية... فقط في الذاكرة والكتب
هاشم المحمد رجل ستيني من أهالي البصيرة التي تتبع إدارياً إلى محافظة دير الزور تبعد 450 كيلومتراً من دمشق. يتذكر شكل قريته أثناء طفولته. يقول:"كان في بلدتنا منذ عقود مضت سور وأبراج، أتذكرها جيداً، وكان هناك قبة تحيط بها الأقواس"، يضيف:"وثمة أنفاق تحت القبة، كنا ندخلها ونحن صغار أثناء اللعب، إلا أنها كانت مظلمة وعميقة فلم يجرؤ أحد على اكتشاف إلى أين تؤدي...!".
يبدو هذا الوصف مشابهاً لمعلومات أوردها هرزفيلد في كتابه الصادر في برلين عام 1911 حيث يذكر أن"قرية البصيرة وهي الاسم الحديث لبلدة"كركسيوم"تقع على الفرات جنوب التل الأثري، وأطلال المدينة تدل على تعاقب مدرجات سكنية قديمة".
ويتابع"لا تزال بعض الأبنية الأثرية قائمة في الموقع، لا سيما المعسكر الذي تقدر أبعاده ب40 إلى 50 متراً وله سور وأبراج وجدران مشيدة بالحجارة والقرميد الشبيه بالقرميد البيزنطي، ويتناثر في المكان كثير من الفخار الإسلامي، ومدخل المعسكر الرئيسي يمر عبر برج يقع على الطرف الشرقي، في داخله غرف مثمنة الأضلاع، ويدل اختلاف البناء في الموقع وعدم تجانسه على أنه بني في عصور مختلفة ورمم مرات عدة".
جهل وإهمال
"إنه لأمر مؤلم أن تؤدي أعمال البناء العشوائي، من قبل الأهالي والسلطات إلى فقدان أوابد أثرية تحكي تاريخ حضارات عدة مضت"هذا ما قاله وضاح 38 سنة، مدرس من أبناء البصيرة وهو يتأمل المكان الذي استبدل فيه سور أثري بشارع اصطفت على جانبيه الدكاكين.
ويضيف"ما حل بآثار البصيرة يثير البكاء".
ويرى وضاح أن"جهل السكان بالأهمية الحضارية لبلدتهم، وإهمال السلطات المعنية لها، أمران أديا إلى هدم ما تبقى من معالم أثرية"ولم يبق منها إلا أجزاء مطمورة تحت منازل الأهالي أو الأبنية الحكومية".
التاريخ يتحدث
أطلق على المنطقة أسماء مختلفة وفق العصور:"كركزيون"بالآرامية وپ"كركسيوم""من كركيس وتعني حلبة الخيل وپ"كاسترون"باليونانية وتعني قلعة .Circesium باللاتينية وپ"قرقيسيا"أو"قرقيسياء"بالعربية، واليوم"البصيرة"التي يزيد عدد سكانها عن 20 ألف نسمة، ويعمل معظمهم بالزراعة، ويتناقلون عن أسلافهم أن بلدتهم تقوم فوق تل أثري تعاقبت عليه الحضارات.
وتشير المصادر التاريخية، ومنها كتاب الجزيرة السورية للباحث اسكندر داود، أن أصل موقع"كركسيوم"يرجع إلى العصر البابلي. ووفق ما نشره هرزفيلد عن البصيرة يعود بناء السور والأبراج فيها إلى عصر الإمبراطور ديولسيان 284-305 م، الذي شيد الحصن كمعقل متقدم ضد هجمات الجيوش الفارسية، وأن الإمبراطور جوستنيان 52-565 م أمر خلال حكمه بزيادة حامية الموقع العسكرية من ستة آلاف إلى عشرة آلاف كما ذكر بروكوب احد مؤلفي الروم Procope انه وفي زمن حاكمها الروماني"ماريكييوس"قام الملك"هرمز"الرابع 579-589 م بغزو الموقع واحتل بعدها حصن كركسيوم. وتوضح كتب التاريخ، ومنها معجم البلدان لياقوت الحموي، أن"قرقيسيا"كانت مدينة عامرة تحمّل منها الفاكهة إلى البلاد الأخرى، وأن الصراع استمر بين الفرس والروم على هذه المنطقة حتى مجيء الإسلام إليها في سنة 16 للهجرة.
"قلعة البصيرة"... في آخر مرة
في أيار مايو 1954، سمحت المديرية العامة لآثار سورية لأهالي البصيرة بنقل كميات من التربة المحيطة بقلعة بلدتهم بغرض الاستفادة منها في أعمال البناء. وجعلت المديرية موافقتها مشروطة بالحفاظ على آثار القلعة وصيانتها.
لكن في أواخر ذلك العام في 17 تشرين الثاني نوفمبر أرسل عبدالله العلي أحد أهالي البصيرة برقية إلى مديرية الآثار في حينها كتب فيها"نخبركم... قلعة البصيرة هدمت، أنقذوها". وبحسب سجلات المراسلات الرسمية بين المديرية ومحافظة دير الزور لم يتخذ أي إجراء يمنع وقوع ما حذرت به برقية عبدالله، بل كانت تلك آخر مرة ترد فيها عبارة"قلعة البصيرة"في مراسلات الجهات الرسمية المعنية.
فالأمر لم يتوقف عند نقل التراب المحيط بالقلعة، ما أدى إلى تصدعها، وإنما استخدمت حجارة سورها الأثري لبناء بيوت البلدة، ومن المرجح أن هذا الفعل استمر لسنوات عدة ما أفقد البصيرة قلعتها.
يقول حسين الزعلان من أهالي البلدة أنه"تم الاعتداء على آثار البصيرة من قبل المواطنين أنفسهم". ويشير بيده وهو يقف عند ساحة تتوسط البلدة، إلى حجارة يميل لونها إلى الأحمر، بني منها كثير من منازل البلدة، قائلاً:"هذه حجارة أثرية، انتزعت من السور الأثري والأبراج التي كانت في هذا التل".
كثيرون من أهالي البلدة يؤكدون هذه المعلومات. ويقول فاروق الموسى:"نقلت كميات من حجارة الآثار إلى مختلف أجزاء البلدة، وبيعت بأسعار زهيدة، لتبنى منها معظم المنازل هنا". ياسر شوحان رئيس دائرة الآثار والمتاحف في دير الزور يشير الى أهمية موقع تل"قرقيسيا"من الناحية الأثرية. ويقول:"من المؤكد أن موقع تل قرقيسيا لا يقل أهمية عن بقية المواقع الأثرية. لكن ربما لم يحظ بعد بفرصة تكشف أهميته".
ويؤكد شوحان وجود الكثير من التعديات على موقع تل قرقيسيا،"سواء بأعمال البناء أو الزراعة العشوائية أو شق قنوات المياه وشبكات الكهرباء غير المدروسة، أو دفن الموتى على سطوح التلال الأثرية، وحتى التنقيب السري وأعمال اللصوصية....".
سبر أثري وحيد... ونتائج تحذيرية
لم يجر في"تل قرقيسيا"الأثري سوى سبر واحد لآثاره عام 1977 من طريق الباحث أسعد المحمود والذي كان آنذاك رئيساً لدائرة آثار دير الزور.
وتوضح نتائج تقرير ذلك السبر أنه تم العثور على لقى أثرية من بينها"أجزاء من أرضية غرف مرصوفة"على رغم أن مدة البحث لم تتجاوز تسعة أيام، واقتصرت على دراسة مربعين من أرض التل طول ضلع الواحد منهما أربعة أمتار.
أوصى التقرير بضرورة متابعة السبر"لملاحقة المنشآت المعمارية للوقوف على أبعادها ونمط بنائها".
ويوضح"المحمود"أنه طالب برصد اعتماد يتناسب وأهمية هذه المنطقة، ويقول:"طلبنا تشكيل بعثة أثرية وطنية لمتابعة التنقيب لكن لم يلق طلبنا آذاناً صاغية".
مخفر للشرطة وشعبة للحزب فوق الآثار
عام 1984 نشر عبدالصمد حيزة في مجلة"الحوليات الأثرية"بحثاً حمل عنوان"أضواء على تاريخ قرقيسيا القديم". استهله بعبارة:"هناك حقيقة أساسية في التاريخ أن: عدم اكتشافنا بعض المناطق الأثرية لا يعني إهمالها".
في العام نفسه أقر مجلس بلدية البصيرة عدم موافقته على إخراج المنطقة الأثرية المحددة كبلدة قديمة من مخطط عمل البلدية آنذاك، ما أسفر عن قيام مبانٍ حكومية فوق التل الأثري.
ويمكن تحديد تلك المباني بالعودة إلى سجلات البلدية ومقارنتها بمخططات دائرة الآثار فيتبين أن من هذه الأبنية: مديرية الناحية، ومخفر الشرطة، والمجمع التربوي، ومركز الهاتف، وشعبة حزب البعث، والنادي الرياضي، ورابطة الشبيبة، ومصلحة الزراعة، ووحدة السجاد اليدوي، ومركز العمران.
ولم يقتصر الأمر على ذلك. فقد منحت بلدية البصيرة في ذلك الوقت رخص بناء للمواطنين في المنطقة الأثرية لينتج من ذلك بلدة تقوم فوق تل أثري.
في المقابل ينص قانون الآثار في مادته العاشرة على أنه"لا يجوز للبلديات أن تمنح رخص البناء والترميم في الأماكن القريبة من المواقع الأثرية، والأبنية التاريخية إلا بعد الحصول على موافقة السلطات الأثرية".
ويؤكد نصر سفان محامٍ متخصص في شؤون الآثار أن:"التعدي من قبل الجهات الحكومية، ينطبق عليه تماماً قانون الآثار المطبق على الأشخاص العاديين، ويعاقب الفاعل عقوبة المواطن العادي نفسها".
ويرى سفان أن"تشديد العقوبة على مرتكبي الجرائم وفق قانون الآثار يمكن أن يقلل من نسبة التعدي على الآثار منوهاً بالمادة 63 من قانون الآثار التي تنص على أنه"يعاقب بعقوبة الفاعل كل من يدخل في اختصاصهم القانوني حماية الآثار أو ضبط الجرائم الواردة في هذا القانون، إذا اطّلعوا أو أخبروا بوقوع إحدى هذه الجرائم ولم يتخذوا الإجراءات اللازمة لضبطها".
يؤكد مأمون عبدالكريم أستاذ في قسم الآثار في جامعة دمشق واختصاصي بالآثار الكلاسيكية من جامعة فرساي في فرنسا أن تل"قرقيسيا"ليس الموقع الأثري الوحيد في سورية الذي تعرض لظاهرة التعدي على الآثار التي تكثر في التلال الأثرية غير المنقبة.
وبحسب معلومات عن الجمهورية العربية السورية يوردها مجلس الشعب السوري في موقعه الإلكتروني فإن أكثر من 1000 موقع أثري في سورية ينتظر التنقيب.
ويقدر عبدالكريم"عدد المواقع الأثرية التي أزيلت بفعل عوامل طبيعية ولعدم وجود برامج تأهيل وترميم لها"بالعشرات".
بينما يتوقع عدد أكبر للمواقع الأثرية التي تعرضت أجزاء منها للتعدي فيقول:"هناك مئات من الأمثلة على ظهور قرى عشوائية وفق محيط القرى الأثرية"مشيراً إلى أن زحف المناطق السكنية باتجاه المواقع الأثرية يحدث عملية تعد على حرم هذه المواقع وأحياناً يعرضها للتدمير.
وفي سياق متصل يرجع يوسف الحمد مدير الشؤون القانونية والإدارية في المديرية العامة للآثار والمتاحف أسباب التأخر في رفع عدد الحراس، وبالتالي تطبيق القانون إلى"قلة إمكانات الدولة المادية". فقد رصدت هيئة تخطيط الدولة مبلغ 460 مليون ليرة سورية أي ما يعادل تسعة ملايين ومئتي ألف دولار أميركي تقريباً خلال العام 2007 كموازنة سنوية للمديرية العامة للآثار والمتاحف.
بحثاً عن ذراع تنفيذي
بدوره يشير مدير المباني الأثرية والتوثيق غزوان ياغي إلى"ضرورة أن يكون للآثار شرطة خاصة بها، تشكل السلطات التنفيذية التابعة مباشرة لمديرية الآثار، للمساهمة في القمع الفوري للمخالفة". ويلفت الى أن المديرية العامة للآثار والمتاحف بوضعها الحالي تمثل سلطة وصاية لا تملك ذراعاً تنفيذية سوى وحدات إزالة المخالفات في المحافظات.
بعد صدور مرسوم جمهوري في شهر آب الماضي يحول"البصيرة"إدارياً من بلدة إلى مدينة، مساحة مخططها التنظيمي 810 هكتارات، لا تزال المشاكل تضغط في أكثر من اتجاه فيها.
ويبدو أن أولويات السكان تتجه نحو إنشاء مستشفى في المدينة، يقدم لهم الخدمات الصحية، فذلك أكثر أهمية بالنسبة اليهم من ضرورة الإسراع في التنقيب عن الآثار حولهم، الأمر الذي يعتبره بعض الأهالي نوعاً من الترف.!
* أعد هذا التحقيق بالتعاون مع شبكة أريج إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية www.arij.net
أرض تحوي آثاراً بيع المتر المربع منها بأربع ليرات!
رغم صدور قانون للآثار عام 1963، ينص في مادته السابعة على أنه"يحظر إتلاف الآثار المنقولة أو الثابتة أو تحويرها أو إلحاق الضرر بها أو تشويهها بالكتابة أو الحفر عليها أو تغيير معالمها أو فصل جزء منها"إلا أن القانون لم يوقف التعدي على الآثار.
ففي عام 1964، أي بعد عشر سنوات من برقية عبدالله، باعت بلدية البصيرة أجزاءً من الأرض الأثرية للمواطنين بقيمة أربع ليرات سورية للمتر المربع الواحد، بعد أن اعتبرت البلدية أن الأرض من أملاكها لأن المديرية العامة للآثار لم تكن قد سجلت تل"قرقيسيا"كموقع أثري يقع تحت سلطتها بحسب تسلسل القرارات الرسمية التي تخص المنطقة. وكان راتب موظف الحكومة وقتها حوالى 250 ليرة سورية.
إلى جانب ذلك، رفعت دعاوى قضائية بين مديرية الآثار وبعض الأهالي، ممن كانت بحوزتهم سندات تثبت ملكيتهم لأراضٍ في القرية تعتبرها المديرية"منطقة أثرية". واستمر القضاء ينظر بتلك الدعاوى سنوات عدة، طالب المواطنون خلالها بحرية التصرف بأراضيهم.
في المقابل نصت المادة السادسة من قانون الآثار على أن"ملكية الأرض لا تكسب صاحبها حق التصرف بالآثار الثابتة أو المنقولة التي قد توجد على سطحها أو في باطنها".
ولأن النقطة المثارة كانت تدور حول إثبات"أثرية"الأرض في شكل رسمي مما دفع بوزارة الثقافة إلى إصدار القرار الرقم 147/ آ الذي يقضي بتسجيل تل"قرقيسيا"في عداد المناطق الأثرية والأبنية التاريخية.
ويصنف القرار الصادر في 1972 التل الأثري إلى ثلاث مناطق:
أ - لا يسمح بتجديدها أو إضافة شيء عليها، بل يسمح بترميمها بالمواد المبنية نفسها منها.
ب - منع الدفن في منطقة المقابر وكذلك لا يسمح بالبناء عليها.
ج - منطقة المدارس، لا يسمح بتغيير وضعها الحالي والمقصود هنا الشكل الذي كانت عليه في 1972.
غير أن تسجيل"تل قرقيسيا"كموقع أثري في سجلات المديرية العامة للآثار والمتاحف لم يمنحه حق الحصول على بعثة أثرية للتنقيب عن الآثار فيه، ولم يوقف التعدي على آثار المنطقة حيث قامت معظم الأبنية الحكومية فوق التل الأثري، ولم يتم التقيد بالقرار على رغم أن تسجيل أثر ما يعني مسؤولية الدولة والسلطات الأثرية عن حمايته وصيانته وفقاً لما جاء في المادة الثانية من قانون الآثار.
523 حارساً لأكثر من 3000 موقع
يقول بسام جاموس المدير العام لشؤون الآثار والمتاحف في سورية ان تل قرقيسيا ليس الموقع الوحيد الذي تعرض للتخريب من جانب المجتمع المحلي.
ويضيف ان"عدد المواقع الأثرية في سورية ضخم ولا يتناسب مع كادر الحراسة. في الحقيقة نحتاج فعلاً إلى مزيد من الحراس لحماية الثروة الأثرية".
ويبلغ عدد حراس المديرية العامة للآثار والمتاحف 523 حارساً، يتوزعون على 47 متحفاً وأكثر من 3000 موقع أثري.
الأولوية للمتاحف والمواقع الأثرية الأكثر شهرة وخصوصاً تلك المسجلة من جانب منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة اليونسكو على لائحتها للتراث الإنساني كتدمر وبصرى وقلعة حلب وصلاح الدين والحصن. وتبقى التلال الأثرية أقل نصيباً من الحراسة، حيث يكلّف حارس واحد بجولات يومية لتلال عدة أثرية بينها عشرات الكيلومترات، الأمر الذي يضعف من إمكانية مراقبة آثارها في شكل فاعل.
وبخصوص ذلك يلفت السيد جاموس"إلى ضرورة التعاون والتنسيق بين الجهات المتخصصة لقمع المخالفات الأثرية فور حدوثها".
من جهته، يؤكد رئيس بلدية البصيرة ضياء المصطفى أن"التعديات على تل قرقيسيا الأثري توقفت"من دون أن ينفي حدوث المخالفات في الماضي.
ويقترح المصطفى حلاً للمشكلة بأن تستملك المديرية العامة للآثار التل الأثري، وتزيل الأبنية التي قامت فوق الآثار بعد تعويض أهلها تعويضاً عادلاً.
في المقابل يستبعد المدير العام لشؤون الآثار والمتاحف في سورية هذا الحل ما لم يتم التأكد من وجود اكتشافات أثرية"مهمة جداً"في المنطقة. ويقول"ستبقى قرقيسيا على وضعها الحالي، إلا إذا حدثت اكتشافات أثرية مهمة جداً".
غير أنه لم يوضح كيف يمكن أن تحصل مثل هذه الاكتشافات من دون أن تتوجه أي بعثة تنقيب إلى الموقع؟ معتبراً أن العامل المادي يحول دون ذلك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.