منذ المدينة الإغريقية القديمة التي كتب الفيلسوف الألماني هيغل ان سكانها انما كانوا يحققون ذواتهم من خلال بنائهم لها، معتبرين خلودهم في خلود مدينتهم، لذا كانوا يستقبلون الموت من دون وجل على أساس أن المدينة، مدينتهم، باقية، حتى وان كانوا هم زائلين، منذ تلك المدينة والإنسان يحلم بالمدينة الفاضلة. وبالنسبة الى هذا الإنسان كان كلما ازداد وعياً بوجوده في الكون، كلما ارتبط عمران المدينة بجوهرها وصارت السياسة صنواً للعمران على أساس أن هدف الاثنين سعادة الإنسان. واذا كان الفلاسفة، من أفلاطون الى الفارابي وتوماسو كامبانيلا، قد كتبوا نصوصاً عن هذه المدينة الفاضلة، فإن ثمة من بين الرسامين من رسمها، ثم بين المهندسين من صححها. بعضهم تمكن - طبعاً - من أن ينجز البناء انطلاقاً من التصميم كالبارون الفرنسي هوسمان، لكن البعض لم يتمكن لأسباب متنوعة، تراوح بين الخيالية المطلقة لتصميم لا يمكن تنفيذه بأي حال من الأحوال، وبين عدم توافر الإمكانات. أما بالنسبة الى العمراني النمساوي أوتوفاغنر، فإن المدينة المثالية التي صممها مشتغلاً عليها حتى عام 1911، كان يمكن في الحقيقة انجازها لتصبح فيينا الكبرى، لولا ان ظروف اندلاع الحرب العالمية الأولى، أوقفت المشروع، بل أنهت الإمبراطورية التي كانت فيينا عاصمتها، كما أنهت كل ذلك الزخم الفني والإبداعي الذي كانت فيينا تعيشه كفاتحة لحداثة القرن العشرين، وكان اوتوفاغنر بمشروعه هذا جزءاً أساسياً منه. فالحقيقة ان ليس في إمكاننا أبداً أن نفصل بين مدينة فاغنر المثالية هذه، وبين أفكار رهط كبير من الرسامين والموسيقيين والمحللين النفسيين، بل حتى المنظرين الاشتراكيين الذين عاشوا في فيينا ونشطوا في تلك السنوات الزاهية الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين. علماً بأن كثراً من هؤلاء كانوا قد أدركوا منذ زمن ان زهو السنوات انما هو أنفاس فيينا الأخيرة، وأن المدينة كما الإمبراطورية كما ذلك الألق الحضاري كله، الى زوال. ومن هنا لم يكن غريباً أن يطلق على عالم فيينا في ذلك الحين لقب"الكابوس السعيد". جعل أوتوفاغنر لمشروعه اسماً واضحاً هو"المدينة الكبرى"داي غروسشتادت، وهو على أي حال العنوان الذي وضعه فاغنر لكتابه الذي فصّل فيه ذلك المشروع وتحدث عنه، ليس كحلم خيالي بل كعمل ممكن وضعه فوراً قيد التنفيذ. ومن هنا نجد المشروع مرتبطاً أساساً بخطة تطويرية لمدينة فيينا، كانت موضوعة في ذلك الحين. ومع هذا تقول لنا سيرة فاغنر ان هذا النص كان تطويراً لمحاضرة ألقاها في عام 1911، في"المؤتمر العالمي للفن العمراني"الذي عقد في مدينة نيويورك. من هنا كان لافتاً أن يبدأ فاغنر محاضرته بالقول إن"الأفكار التالية لا ترتبط، في الحقيقة، بأي مدينة في شكل خاص، بل بالمدن الكبرى بصورة عامة"لماذا؟"لأن هذه المدن هي التي أبرزت، تحديداً ضرورة حل مشكلات تمدد هذه المدن في المستقبل". واضح هنا ان فاغنر أراد منذ البداية أن يعمم أفكاراً انطبعت لديه من رصده أحوال المدينة التي يعيش فيها، والتي ساهم طوال عقود طويلة في تحقيق أهم مشاريعها العمرانية، هو الذي أراد في الوقت نفسه، أن يحدد الأسس النظرية للعمران المستقبلي. والحال أن قراءة متأنية لهذا النص تكشف لنا كم ان فاغنر كان متأثراً، على وجه الخصوص، بالتجربة التي كان البارون هوسمان قد حققها في باريس خلال العقود السابقة والتي جعلت باريس، بحسب فاغنر وأيضاً بحسب مواطنه الفيلسوف والتر بنجامين، نموذجاً لمدن القرون المقبلة. في اختصار يمكن القول اذاً ان فاغنر اذ حدد أسس مشروعه، بدا في نهاية الأمر وكأنه يشتغل على تطوير أفكار هوسمان، ليجعل من فيينا باريس جديدة انما متطورة، تحافظ على الكلاسيكية الوظيفية الهوسمانية، مضيفة اليها مكتسبات الحداثة الفنية. يفيدنا الكاتب الألماني أوغست سارينتس الذي وضع دراسة لافتة حول حياة اوتوفاغنر وفنه، ان هذا الأخير وفي هذه الدراسة التي قرر أن يتركها ذخراً نظرياً للأجيال المقبلة من المهندسين العمرانيين المهتمين بتطوير المدن، نادى في شكل خاص بتصور هندسي عمراني وفني يطور أوضاع المدينة بصورة تستجيب الحاجات الجمالية والاجتماعية للفرد في آن معاً. وهو، في الوقت نفسه"حدد هدفاً رئيساً لعمله يقف بالتعارض حتى مع نظرياته السابقة الخاصة التي كانت تقول ان على النزعة الواقعية أن تسم أي عمل فني، حتى وان كان عمرانياً ومن هنا نراه يقول في مقدمة دراسته:"ان علينا ان نهتم بأن يبقى البنيان دائماً، وحتى ضمن اطار الشروط التي تفرضها التقنيات الحديثة، ميداناً لبروز البعد الفني... بمعنى ان يكون العمران مهمة المهندس العمراني، وليس المعماري التقني وفي هذا يميز فاغنر بين الپ ArtichecteوالپIngenieor، معتبراً عمل الأول فنياً، وعمل الثاني تقنياً، وفي هذا السياق يخلص فاغنر الى ان على"الفن أن يتجاوز تماماً كل عملية ابداعية". بالنسبة الى فاغنر هنا، ودائماً بحسب ما يفيدنا سارينتس، يبقى الجهد العمراني المديني الذي قام به البارون هوسمان في باريس، نموذجياً وفي اتجاهات عدة، بخاصة بالنسبة الى عملية شق الجادات الكبرى، وتصميم الساحات العامة والمباني الضخمة. ومع هذا"وعلى الضد من هوسمان فإن عمل فاغنر لم يتناول إصلاح مناطق مدينية موجودة بالفعل وضبطها، وانما إقامة امتدادات جديدة للمدينة الموجودة". وينطبق هذا لديه على مشروع مدّ مدينة فيينا توسيعها في أكثر من اتجاه. ومن هنا نراه يقترح شق شرايين واسعة جديدة تنطلق من مركز المدينة في اتجاه محيطها، كذلك هيكلية شعاعية الاتجاه لدوائر يتعين أن تضم في أَرجائها المجمعات العمرانية الجديدة التي ستشكل الزنار الخارجي للمدينة الجديدة. ويرى فاغنر هنا ان، عند عملية التصميم والبناء يجب احترام وجود مزيج معين من الناحية الاجتماعية بغية تفادي ظهور أحياء أحادية الهيكلة أو أحادية البعد الاجتماعي. ومن ناحية رقمية يرى فاغنر ان كل مجمع ضخم من هذه المجمعات والذي يجب أن يشكل دائرة قائمة في ذاتها يحب أن يضم بين 100 و150 ألف نسمة. ومن ناحية التمويل، التي لم تغرب عن بال فاغنر هنا، نراه في النص نفسه يدافع عن سياسة استثمارية نشطة تمارسها المدينة نفسها في مجال شراء الأراضي وبيعها، أي أن تتحول هذه العملية برمتها الى قطاع عام، ما يسمح في الحقيقة بالنضال، بحسب رأيه ضد"المضاربين العقاريين الذين لا ضمير لهم". وآية ذلك أنه اذا كانت الدولة ? أي الجماعة المدينية هنا - هي التي تنفق على البنى التحتية ما يرفع ويضاعف قيمة الأراضي بالتالي، فإن الأرباح الناتجة من فائض القيمة هذا يجب ألا تذهب الى المضاربين بل الى الجماعة... وبهذه"الأرباح"يمكن تمويل كل المرافق الجماعية من مستشفيات ومدارس ومؤسسات ثقافية ومواصلات"وما الى ذلك. ان هذا كله - وهو لم ينفذ طبعاً في فيينا ذلك الحين - قد يبدو اليوم بديهياً... لكنه في ذلك الزمن المبكر كان ثورياً، تماماً مثل التصاميم العمرانية التي ملأ أوتوفاغنر 1841 - 1918 بها فيينا هو الذي، حتى وان كان عاش عقوداً طويلة وعمل وسافر كثيراً، انجز معظم أعماله العمرانية الكبرى فيها، وأبرزها"أكاديمية الفنون"وپ"الغاليري الحديث"وپ"كنيسة آم شتاينهوف"وپ"المتحف الوطني فرانسوا جوزيف"، اضافة الى"قصر السلام"في لاهاي بهولندا. [email protected]