حين يتم تكريس حزب سياسي معين، دستورياً، "قائداً للدولة والمجتمع" معاً، وهذه هي الحال في سورية القرن الحادي والعشرين التي تعدّ عشرين مليوناً من السكان، يصبح من المنطقي اتهام كل خروج على الإجماع بالخيانة. وينتمي كل من الإجماع والتخوين الملازم له، إلى ثقافة العشيرة أو الأوبة، لا إلى مفهوم المجتمع الحديث الذي يتشكل تعريفاً من مصالح متعددة ومتعارضة، تعبر عنها أحزاب سياسية ومؤسسات اجتماعية متعددة، تضمن الدولة عدم تحول التعارضات بينها إلى صدام. فإذا كان"الحزب القائد"المعيّن، قد حوّل المجتمع المقود، في غضون أكثر من أربعين عاماً من قيادته، إلى عشيرة أو أوبة، فمعنى ذلك أنه قد بلغ طور"نفي النفي". ذلك أنه بغياب المجتمع، يصبح"الحزب القائد"له نافلاً، ما دامت الدولة سبقتها إلى التحلل، تماشياً مع التحوّل الأوبوي ذاته"وهو تحوّل كافكوي، يصعب مع نتائجه تخيّل أدوار غريبة من نوع"مقاومة المشاريع والمؤامرات الإمبريالية!"أو"التطوير والتحديث"أو"التمييز بين الإرهاب والحق المشروع في مقاومة الاحتلال"مثلاً"وهي مهمات يعلن الكيان الموصوف هنا، كل يوم، تصديه لها. من موجبات التصدي هذا، على غرابته، أن يتأسس على إجماع الأوبة وراء من يقودها، ما يفترض سلطة رعوية تحمي وتطعم، كشرط من شروط انتظام الرعية في الصف"والحال أن تلك عاجزة عن الحماية بدلالة الطلعات الجوية الحرة للمصنف عدواً، في أي وقت يشاء"عجزها عن إطعام العشرين مليوناً من الأفواه... بانتفاء شروط انتظامها في الإجماع، تنحو الأوبة ذاتها نحو التحلل السريع. يعكس الهجوم الواسع الذي"حظى"به إعلان دمشق، من جهات معارضة للحكم، وجهاً من وجوه أزمة التغيير الديموقراطي في سورية، بما هي العجز عن بناء تفاهمات وطنية تخترق مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية والتيارات الإيديولوجية، حول قضية وطنية واحدة تستقطب الفعل السياسي. هذا يعني، في إطار التحولات النشطة في المنطقة، أن الوضع القائم وحده يشكل ضمانة أمام تحوّل الحالة السورية إلى حالة لبنانية أو عراقية. هذا استنتاج خطير، يترتب عليه أن الموجود هو الوحيد الممكن أو أفضل الممكن، الأمر الذي يفسر، بالمقابل، سبب بقاء أنصار التغيير أقلية ضئيلة في المجتمع. يعرف مهاجمو الإعلان قبل غيرهم، الخلل الباهظ في موازين القوى بين النظام الحاكم وأنصار التغيير الوطني الديموقراطي"فما من شيء يبرر هجومهم على هؤلاء غير نظرتهم إليهم بوصفهم"طابوراً خامساً"، الأمر الذي أعلنه"الخبير الاستراتيجي"إياه، في معرض تبريره لاعتقال الأجهزة الأمنية عدداً من أعضاء المجلس الوطني وأمانته العامة"في حين حصر الرفيق السابق اتهامه برياض الترك"واتفق كل من الماركسي المزمن و"المفكر العربي من سورية"على الذود عن"مصالح الطبقات الشعبية"في وجه الهجمة الليبرالية الشرسة، وهي هنا إعلان دمشق طبعاً وليس المافيات النافذة"ودعا ثانيهما قيادة الإعلان، في تصريحات صحافية، إلى أخذ الصراع الإقليمي بعين الاعتبار. نعم هكذا بالضبط: مصالح الطبقات الشعبية والمشروع الأميركي في المنطقة والصراع الإقليمي... عبارات هلامية تعني شيئاً واحداً: مقاومة التغيير مهما كان الثمن. مقاومة، لأن التغيير قادم، فيما يرون، بصورة محتمة"وهو تغيير نحو الأسوأ بما أن الفاعل أميركي، وفقط لأنه كذلك. الغريب أن الرفيق السابق، مثلاً، يعدد، في مقالة سابقة له، بحق، نقاط قوة النظام السوري وقدرته على تجاوز أزماته وإدامة حكمه! وسوف نرى بعد قليل أن المفكر العربي يشاركه الرأي هذا. وهكذا يتم الهجوم على أنصار التغيير، مرة بوصفهم عملاء لأميركا، ومرة لأن رهانهم خاسر! من بين الأمثلة المذكورة يستحق"المفكر العربي من سورية"وقفة خاصة، سواء في بيانه المخصص لإعلان تجميد عضويته في إعلان دمشق، أو في تصريحاته الصحافية، أو في مقالته المنشورة في"القدس العربي". فهو في المناسبات الثلاث يقدم نموذجاً معبراً عن الحالة التي نعمل على فهمها. يقوم البيان على فكرة أن المجلس الوطني لإعلان دمشق أنتج وضعاً يسيطر فيه التيار الليبرالي، بما يتعارض مع وزنه الحقيقي في المعارضة السورية وتمثيله الاجتماعي المعدوم"الأمر الذي يعوّضه بالاستقواء بقوى خارجية"بعد استبعاد حزب الاتحاد الاشتراكي من قيادة الإعلان. ويسهب المفكر المشار إليه، في مقالته المنشورة في القدس العربي، في بسط فكرته عن هذا الاستبعاد، آخذاً على الإعلان عدم استفادته من نموذج"الديموقراطية التوافقية"المأخوذ بها، فيما يرى، في الجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة. ويأخذ على الاتجاه الليبرالي، فضلاً عن رهانه على أميركا، عدم ضمانه للحد الأدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للطبقات الشعبية، وعدم اهتمامه بالقضايا الوطنية، وانحيازاته العربية، خاصاً بالذكر جماعة 14 آذار اللبنانية في المقالة، و"الأنظمة العربية"في البيان، التي يصفها بأنها"لا تختلف عن النظام السوري إلا بتبعيتها لأميركا". ويزيد المفكر فيحمّل الإعلان مسؤولية الامتناع عن الحوار مع السلطة، متسائلاً عما يمكن أن يدفع هذه الأخيرة إلى الحوار مع من يرفضه. إلى ذلك لا يوفر المفكر العربي من سورية بعض رموز المعارضة السورية من التشنيع الشخصي، مذكّراً بأفضاله عليهم في الدفاع عن حريتهم وكرامتهم كذا! حين كانوا في السجون، ما يوحي بندمه لظنه بأنه ساهم، بطريقة ما، في انتهاء محنتهم. إذا قارنا بين البيان الأول لإعلان دمشق تشرين الأول/أكتوبر 2005 الذي حدد التوجهات العامة للائتلاف المعارض، والبيان الصادر، مطلع الشهر الأخير من العام الفائت، عن المجلس الوطني لإعلان دمشق، سوف نرى أن الأخير هو أقرب، بروحه العامة، من التيار الذي يزعم اقصاءه من قيادة الائتلاف، والذي شارك بفعالية في صياغته"في حين أن روح البيان التأسيسي أقرب إلى التيار الذي يقال إنه سيطر في المجلس الوطني. وفي ذلك الوقت تعرّض الائتلاف وبيانه التأسيسي إلى هجوم عنيف، كمثيله اليوم، من قوى خارجه، وكان أبرزها مجموعات ليبرالية ? علمانية، هاجمته بدعوى أنه يشكل خطراً على الوحدة الوطنية"وتعرضت فقرات من البيان إلى نقد أقل عنفاً من قوى داخل الائتلاف، عملت، بعد أربعة أشهر، على استصدار ما عرف باسم بيان التوضيحات، وهو في جوهره استجابة لحنين إيديولوجي قومي ? يساري، ما انفكّ يشكل هويةً لحامليه"دخل بعده الائتلاف، بفعل عوامل عديدة، حالة من العطالة، وأخذت تظهر إلى العلن خلافات داخلية، عبّرت معاً عن أزمة في الائتلاف، عكست بدورها أزمة في المجتمع السوري أسميناها أزمة التغيير الديموقراطي. بذلك يصبح من غير المفهوم، سياسياً، تجميد البعض عضويتهم في الإعلان اليوم، أي بعد بيان التوضيحات وبيان المجلس الوطني، في حين أنهم وافقوا على البيان التأسيسي، إلا إذا عددنا البيانات مجرد كلام فارغ. وإذا أمكننا تفسير تجميد حزب الاتحاد الاشتراكي لعضويته بنزعة حزبية ضيقة الأفق لعدم تمثيله في قيادة الإعلان، يبقى موقف المفكر العربي مثلاً غير مفهوم ما لم نقرأ المتغيرات السياسية العامة في السنتين الأخيرتين. ففي اللحظة التي انضم فيها المذكور إلى الإعلان، كان ثمة انطباع عام، ليس لدى المعارضة السورية وحدها بل لدى عموم المراقبين عبر العالم والنظام السوري نفسه ضمناً، بأن هذا الأخير بات على وشك الرحيل. إنها أيام انتحار غازي كنعان وتقرير ميليس الأول وانشقاق عبد الحليم خدام وذروة الضغوط الأميركية ? الفرنسية والعزلة الدولية الخانقة. وعبّر البيان التأسيسي للإعلان عن انتقال المعارضة السورية من مطلب الإصلاح إلى مطلب التغيير. هذا معناه أن المفكر العربي كان يراهن، حين انضمامه إلى الإعلان، على الرحيل الوشيك للنظام بفعل الضغوط الدولية أساساً"وحين تبدلت الأوضاع، في الأشهر الأخيرة خاصة، وبدأت واشنطن تعيد النظر في سياستها تجاه دمشق، باتجاه الانفتاح والحوار، جمد المفكر عضويته وأخذ يبشر بالحوار مع الجبهة الوطنية التقدمية ويدعو إلى الاقتداء بها في فن الديموقراطية التوافقية، ويتهم إعلان دمشق الذي يتعرض لحملة اعتقالات واستدعاءات متواصلة إلى اليوم، بالاستقواء بأميركا. لا مشكلة، فالسياسي الحق هو من يقرأ المتغيرات جيداً و"يشم"ما هو قادم. من حق المفكر العربي أن يميل كيفما مالت الريح وينحاز إلى الجهة التي يشاء، يحاور من يشاء ويقف ضد من يشاء، على ألا يتهم الآخرين بما فيه، وأن يتحلى بحد أدنى من أخلاقيات العمل السياسي، حتى لا نقول الفكري ذلك لأن المفكر يفكر حتى لو كان"من سورية". لفتني في مقالة المفكر المشار إليها أنه يشخص ظاهرة معروفة لدى النظام السوري، هي افتقاده لمفكرين أو مثقفين يعبرون عنه ويجيدون الحوار. تراه يطمح، بطروحاته الجديدة، إلى سد هذا الفراغ؟ ما علينا، هذا أيضاً من حقه. الواقع أنه، لا تركيبة المجلس ولا تركيبة أمانته العامة، تعبران عن سيطرة التيار الليبرالي، ففيهما اليساري والقومي والإسلامي إلى جانب شخصين فقط يمكن نسبهما إلى التيار الليبرالي، أحدهما رياض سيف الذي خصه المفكر العربي بوافر هجومه. وسيف كما هو معروف، لا يملك وزناً اقتصادياً أو مالياً، بل هو دونكيشوت حالم بإزاحة الاستبداد والفساد عن صدر وطنه، وهو أقرب إلى مفهوم الليبرالية السياسية منه إلى مفهوم الليبرالية الاقتصادية، ناهيك عن صفة الجديدة المضافة التي تعبر، كما يعرف مفكرنا جيداً، عن الاتجاه السائد اليوم في السياسة الاقتصادية في الولاياتالمتحدة وعدد من البلدان المتقدمة، وينحو نحو عولمة اقتصاد السوق المتحرر من قيود الدول والحدود"كما يعرف جيداً من يمثل هذا الاتجاه في سورية"ومع ذلك يطلق صفة الليبرالية الجديدة على تيار مفترض داخل الائتلاف المعارض، يعدّه مسؤولاً عن بؤس طبقاته الشعبية وضياع حلم الوحدة العربية، ومستقوياً بمشروع أميركي، يعلن بنفسه عن أفول نجمه. * كاتب سوري.