يعتبر معرض الفنان حاييم سوتين في "غالوري بياناكوتيك" فرصة للتعرف الى ما خفي من خصائصه التعبيرية. فقد اجتمعت أكثر من ثمانين لوحة من أعماله للمرة الأولى، منها ما هو مكتشف حديثاً ويعرض بالتالي للمرة الأولى، ما يفسّر غياب عروضه أو ندرتها على رغم سعة شهرته، بعد معرضه اليتيم عام 1974 في"الأورانجوري". يتهمه أغلب النقاد باحتكاره ريادة"التعبيرية الفرنسية"عن غير حق، لأن الممثل الأحق لهذه الصفة هو معاصره جورج روو. اذا كان الفنان الروسي مارك شاغال يعتبر رمزاً تشكيلياً للحركة الصهيونية، فإن سوتين يمثل عذابات اليهود خلال فترة الحرب العالمية الثانية. ابتدأت أحزان سوتين مع ولادته عام 1893 في احدى الضواحي اليهودية الصغيرة والمعدمة في قلب ليتوانيا، منتسباً الى عائلة ريفية. وكان يعثر بالكاد على لقمة عيشه في عائلة مكونة من 11 ولداً. لنتخيل وعورة تحصيله الفني المتقطع في احدى المدارس المختصة في عاصمة المقاطعة. هذا ما دفعه عام 1913 للهجرة الى فرنسا، ليعمل في نقل بضائع القطارات ليلاً، وليكرس وقته النهاري للرسم ورصد كنوز المتاحف، وذلك قبل أن يستقر في باريس بمساعدة موديلياني ليصبح مع الأيام واحداً من البارزين في كوكبه"حي المونبارناس". ظلت لعنة الفقر تلاحقه حتى تعرف الى بعض المتحمسين من تجار اللوحات لأسلوبه. تتمتع أعماله بجنوحات مأسوية متقرحة، يتلوى فيها العالم بشخوصه وأشجاره وعمائره ضمن نحيب سيزيفي كابوسي. تعكس لوحاته مناخه الطفولي البائس والبالغ الحساسية في خصوص ذبح الحيوانات. استغرق فترة في تصوير آلام الذبائح من الدجاج وحتى العجول والبقر الموضوع الأثير عند رامبرانت. يذكر هو نفسه أن طفولته مسكونة بصراخ طيور البط أثناء ذبحها وسيلان دمها. يقول ان لوحاته تستنطق باللون والفرشاة هذه الصرخة، الصماء المكبوتة. يلتقي في عوالمه المأسوية المتوحدة مع تعبيريي عصره مثل النروجي ادوار مونخ أو إنسور، نجد بصمات الثلاثة صريحة في توليفات مروان. علينا الاعتراف بأن أعمال سوتين على رغم أصالتها وتميزها تملك تبايناً في المستوى، ولا يخفى على العين الخبيرة تعثر شخوصه في الأسلبة والتنميط بعكس شخصيات بيكاسو المعاصرة، هو ما يفسّر سهولة تقليده في الأعمال الفنية الاستهلاكية التي اجترت تحريفاته الحفظية من طريق سخاء العجائن اللونية ولمسات السكين التي لا تخلو من ابتذال. علينا الاعتراف في المقابل بأن بعض مناظره تحتل موقعاً أصيلاً في تاريخ الفن، وفي تعبيرية ما بعد الحرب العالمية الثانية مثل أعمال نظيره جان فوترييه الذي اختص بتصوير وجوه المحكومين بالإعدام خلال الحرب، لكن انتساب سوتين الى المعنى التعبيري أشد وضوحاً، فهو سليل فان غوغ والتعبيرية الألمانية. من المثير للعجب أن المعرض يؤكد أن شهرته أقل مما يستحق. أنا أجد العكس، فلا تخلو هذه الدعوى من الحساسية السياسية، وهو كان ضحية الغستابو الألماني وملاحقة حكومة فيشي الفرنسية المتحالفة التي طاردته، ويحكى أنه توفي عام 1943 في ظروف أشد تعاسة من ظروف طفولته، اذ أصيب أثناء ملاحقته وقضى بنزيف حاد وهو يُنقل الى المستشفى. ومهما يكن من أمر، فإن عدداً من لوحات سوتين، خصوصاً في الطبيعة الصامتة تملك تأثيراً حداثياً لا يستهان بقوة تعبيريته، وتحديداً في استخدام تراجيدية اللون الأبيض، ومعرض اليوم فرصة لإعادة تأمل مساحات اضاءاته وتعثراته. يستمر المعرض حتى نهاية الشهر الجاري.