كان لوتشيانو بافاروتي أول سفراء الأممالمتحدة للعناية بأطفال الحروب. هو نفسه ترعرع في فقر الحرب العالمية، وهبه الله نعمة القناعة الباسمة والصوت العظيم. إذا ابتسمت أحبّك الناس، وإذا غنيت أحبك الله. عندما اقترحت عليه البدء بمساندة أطفال"البوسنة"كان يتصل بي مستعجلاً ما اعتبره شرفاً كبيراً، فيهتف خلال الاستراحة من أوبرا ميلانو:"هونوري، هونوري". في سراييفو بكى وهو يحتضن الأطفال الجرحى. وفي ليبيريا رفع صوته ضد دفع الأطفال الى حمل السلاح القاتل. وفي بلدته"سودينا"رقص طرباً عندما علم أنه استطاع أن يجمع للمحتاجين مليون دولار في ليلة واحدة. عرفناه باسم"المايسترو". يوم ذكرى ميلاده دعوته الى مبنى الأممالمتحدة، وبعد انتهاء الغداء وقف الحاضرون كي ينشدوا له تمنياتهم، فرد بما هو أرخَم. في لحظة أريحية وهبني اثنتي عشرة تذكرة نادرة لحفلة يحييها في متروبوليتان نيويورك. انطلق من بين الأذكياء الأقوياء البسطاء، أولئك القرويين الطيبين في الريف الإيطالي الجميل وظل شهماً يستمتع بزيت الزيتون ويُفاخر بالخل الذي ينتجه مسقط رأسه. رفض أن يبقى صوته أسير المسارح الرئيسة فانطلق نحو كل الناس. جمع بين الكلاسيكية والحداثة، بين الأوبرا والبوب، بين كاروزو وإريك كلايتون وستينغ واندريا بوتشيللي. في مهرجانات العطاء لم يحاول التقدم على الآخرين، بل ظلّ يتوسط الضوء هامساً مشجعاً مسانداً عندما يشعر بارتجاف الصوت الآخر. لا بديل له في الموهبة ولا مثيل له في الوفاء. أنعشته الجماهير وأتعبته المسارح، أسعد لحظات الغناء أصبحت خلال مباريات كرة القدم وأتعسها في السنوات الأخيرة الاضطرار الى الوقوف الطويل على الخشبات المسقولة،"تعبت. لم أعد أرغب في حفلات الغناء"، قال لي قبل ثلاث سنوات. وكان توقف تعامله أيضاً مع الأممالمتحدة، لأسباب لا مجال لذكرها الآن، بعدما جمع سبعة ملايين دولار للأطفال اللاجئين. لكنه بقي دائماً يتابع الأوبرا ويتطلع الى لقاء الأصدقاء ويستمتع بالفن الأصيل. عندما مات المغني راي تشارلز أول فنان تعرفت إليه عند قدومي الى نيويورك، خطر لي خلال التأبين أن السماء ستطرب على أنغام الجاز. مع رحيل المايسترو بافاروتي، لعل الملائكة سترافقه بنشيد الإنشاد. مَن رعاه الله، لا يعوزه شيء.