في سنة 1894، كان أوسكار وايلد صار في الأربعين من عمره ... وكان يشعر برغبة كبيرة في ان يكتب قصيدة جديدة طويلة يحكي فيها، في شكل موارب، بعض هواجسه وأفكاره، وبعض ثنايا حياته"السرية"الخاصة. ولما كان انتهى، في ذلك الحين، لتوه من قراءة قصيدة"الغراب"لادغار آلن بو للمرة العاشرة، فيما كان في غرفته يتأمل تمثالاً صغيراً لأبي الهول، رأى ان قصيدته العتيدة يمكن ان تكون منطلقة من هنا: مما يماثل الأجواء والتقسيمات التي أوجدها ادغار آلن بو في"الغراب"ويستخدم تمثال ابي الهول وما يرمز اليه هذا التمثال، محاوراً له يحكي عبره الحكاية الشعرية التي يتطلع الى ان يحكيها. وهكذا ولدت قصيدة"أبو الهول"التي صدرت في العام نفسه في كتاب فخم مزينة برسوم حققها تشارلز ريكيتس. ولسنا في حاجة هنا للاشارة الى كم الضجيج الذي أثارته هذه القصيدة سلباً وإيجاباً، اذ نعرف ان ذلك الزمن كان الذي وصل فيه تزمت العصر الفيكتوري الى ذروته، وأن أوسكار وايلد كان يصر دائماً على استفزاز ذلك العصر ورقابته، الى درجة ان الرقابة وخصوم الشاعر كانوا يبحثون بدقة خلف كل كلمة وسطر كي يهاجموا الشاعر، فيما كان انصاره يبحثون، كذلك خلف كل كلمة وسطر، كي يثنوا عليه وعلى قدرته على تحدي المتزمتين. والحقيقة ان اوسكار وايلد، مع قصيدة"أبو الهول"لم يحوج لا هؤلاء ولا أولئك الى التدقيق في البحث. اذ جعل القصيدة حافلة بكل ما من شأنه ان يغضب قوماً، ويفرح قوماً آخرين، حتى وإن كان جعل لها خاتمة ميتافيزيقية بالغة الروعة يعلن فيها ارتباطه الحاسم بالسيد المسيح، الذي يسميه هنا"المصلوب". ويبدو هذا الاعلان لافتاً، اذا ما تنبهنا منذ بداية القصيدة الى ان ما من شيء في سياقها الاول كان ينبئ بأن يكون ختامها على هذا النحو. المهم اذاً هو ان أوسكار وايلد الذي كان، في رغباته الخفية، يريد ان ينتج عملاً يتفوق على قصيدة ادغار آلن بو التي كانت وصفت من جانب النقاد الانغلوساكسونيين بپ"أروع قصيدة كتبت"، حقق رهانه بحيث ان كثراً من النقاد والدارسين اعتبروا"أبو الهول"متفوقة على"الغراب"، حتى وإن لم تحقق ما حققته هذه الاخيرة من شهرة على مدى الأزمان. منذ البداية يضعنا وايلد في قلب موضوعه، حيث نراه يصور"أبو الهول"على شكل تمثال عتيق آتٍ من أزمان سحيقة، قابعاً في زاوية من غرفة الشاعر ينظر اليه بلامبالاة، تماماً كما يتعامل مع مرور الزمن بأكبر قدر ممكن من اللامبالاة. انه هنا على حاله رغم الزمن، وسيظل هنا رغم الزمن. هنا حين يخيم الظلام، كما حين ينتشر الضوء: الجلسة نفسها والنظرة نفسها والغرق نفسه في الافكار والتأملات. وذات لحظة بعد ان يصف لنا هذا الجو بلغة تعبق بالحياد، يدعو الشاعر أبا الهول الى ان يجلس على ركبتيه كي يتسنى له ان يداعب رأسه ويلمس أسنانه العاجية. وإثر هذه الدعوة يواصل الشاعر حديثه متنقلاً فيه بين أبي الهول والقارئ في تأرجح بين ما هو تأمل وصبر ودعوة ومناجاة. وهكذا تمر علينا، على لسان الشاعر، ألوف السنين التي عاشها أبو الهول، معبراً عنها في سطور لا يخفي الشاعر فيها تأرجحه هو الآخر بين أقصى درجات التبجيل وأقصى درجات الخوف، ازاء هذا المخلوق الذي ? كما يقول لنا الشاعر ? عاش كل شيء ورأى كل شيء."هذا المخلوق الذي لم يتوقف طوال تاريخه عن الدنو من شياطين الاساطير والحكايات، من ارتياد المعابد والمقابر الفخمة". هذا المخلوق الذي شاهد ايزيس راكعة على ركبتيها امام اوزيريس، كما شاهد فينوس عشتروت راكعة تبكي في مشهد حي غامر، أمام جسد حبيبها أدونيس المثخن بالجراح. وهكذا، عبر هذا الوصف المتصاعد، زمنياً ودرامياً، يصل بنا الشاعر، مع أبي الهول الى فلسطين العهود القديمة حيث يحدثنا، بعيني أبي الهول، عن صورة السيدة العذراء راكضة متجولة مع طفلها. ان المخلوق المبجل أبي الهول، وكما يؤكد لنا الشاعر عاش كل هذا ورآه، تماماً كما عرف حكاية المتاهة... وعاشر أشهر وأهم رجال تاريخ العصور الوسطى... كل هذا يصفه لنا الشاعر بإسهاب ودهشة، ثم اذ ينظر الى المخلوق منتظراً منه جواباً، أو أي نوع آخر من أنواع التجاوب، يكتفي أبو الهول بابتسامته جواباً... انها ابتسامته الهادئة العميقة الغامضة التي لا تريد ان تفصح عن أي شيء. فالحال ان صمت أبي الهول هو كل شيء وهو الحقيقة. صحيح ان هذا المخلوق الآتي من عمق تاريخ البشرية وتاريخ الألوهية، قد أحب يوماً"إله الفراعنة"آمون ذا الجسد الابيض المنطلق والشعر ذي اللون الفاتح... آمون الذي كانت مصر كلها تبجله، لكن ابا الهول لا يريد ان يحكي لنا عن ذلك كله أي شيء. أما الشاعر فإنه يتذكر هنا كيف أن أبا الهول بقي، فيما لم يبق من آمون سوى تمثال ضخم محطم مرمي في رمال صحراء مصر. وهنا، لمناسبة تذكر هذا المشهد، ها هو الشاعر يدعو مخلوقه للعودة الى مصر، حيث حبه الأول والأخير"رح الى مصر دون خوف أو وجل"يقول له بعد ان يحدثه، للمناسبة عن سوريا وصيدا، ففي مصر"يمكنك ايها المخلوق ان تعثر على احبائك السابقين، كما يمكنك ان تعثر على أحبة جدد". واذ يدعو الشاعر ابا الهول الى القيام بتلك الرحلة، يستشعر بسرعة في خطابه ان الدعوة ليست فقط حباً بأبي الهول، بل كذلك هي إعلان سأم بيّن: فالشاعر سئم التمثال وصمته الأبدي. سئم وجوده الدائم الى جانبه يحدق به. وسئم نظرته الجامدة التي تحاول ان تقول دائماً ان وراءها عظمة ما بعدها عظمة... كل هذا لم يعد يرضي شاعرنا في علاقته مع هذا المخلوق... لهذا، لم يعد على هذا الاخير الا ان يرحل، ربما الى حيث يمكنه ان يعود، من جديد، عابقاً بالحياة والحركة. عليه ان يرحل لأن الشاعر بعدما تأمله طويلاً، وبعدما حدثه طويلاً وحاول أن يحرك له ذكرياته وعواطفه معتقداً انه، ذات لحظة سيلين ويبدل ملامحه، يدرك اخيراً ان هذا كله عبث لا طائل من ورائه. وهكذا نراه يصرخ في الفقرة الاخيرة، وقد خالجه فجأة شعور بأن هذا المخلوق الذي يناجيه ليس في نهاية الامر سوى تمثال جامد. وهكذا نراه يقول له صارخاً:"ايها المخلوق المزيف... يا أبا الهول المزيف... يا أبا الهول المزيف رح الى حيث كنت في الماضي. اذهب واتركني مع مصلوبي، هذا الذي يجعل حمله لونه شاحباً، وينظر الى العالم بعينين مهمومتين... ثم يبكي على كل روح تموت... ثم يبكي على كل نفس من دون جدوى!". ينظر كثر من النقاد الى قصيدة"أبو الهول"هذه على اعتبار انها القصيدة التي اشتغل اوسكار وايلد على صوغها اكثر مما اشتغل على أية قصيدة أخرى له. فهو كان يعرف انها قصيدة التحدي بالنسبة اليه، وانها اما ان تطلع من بين يديه قصيدة كاملة تقول كل ما كان يعتريه في ذلك الحين من مشاعر، وإما فإنه لن ينشرها ابداً. واذا كان وايلد 1854-1900 قد اشتغل على"أبو الهول"انطلاقاً من رغبته في تجاوز"غراب"ادغار آلن بو، فلا شك ايضاً في انه عمل عليها وفي ذهنه أعمال كبيرة لشعراء وكتّاب آخرين، حيث ان في وسعنا ان نلمح في القصيدة تأثيرات، خفية أو واضحة، آتية من عوالم بودلير الشعرية، كما من أجواء"إغواء القديس انطوان"لفلوبير اضافة الى ايقاع مموسق رائع يحمله الأصل الانكليزي يبدو طالعاً مباشرة من عالم الموسيقى الرومنطيقية. ونعرف ان وايلد، الذي كان شاعراً وروائياً وكاتباً مسرحياً، كان يهتم بالموسيقى اهتماماً جدياً، ناهيك باهتمامه بالتاريخ والسياسة والفن التشكيلي،. وليس من المغالاة القول ان في وسعنا ان نلاقي هذا كله في هذه القصيدة، كما في أعمال أخرى لوايلد تفوقها شهرة مثل رواية"صورة دوريان غراي"ومسرحية"مروحة ليدي وندرمير"ونص"سالومي"... وغيرها.