ترأس المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي، ابن مدينة الناصرة المقيم في بلجيكا لجنة تحكيم الدورة الحادية عشرة من مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة 3-9 أيلول/ سبتمبر 2007، وكرّم في اليوم قبل الأخير من المهرجان بعرض فيلمي"الذاكرة الخصبة"وپ"معلولا تحتفل بدمارها"، ووزعت إدارة المهرجان على الضيوف والحضور في وقت سابق كراساً بعنوان"ميشيل خليفي... ذاكرة الوطن الخصبة"للناقد المصري كمال رمزي، وهذا أضحى على ما يبدو تقليداً في عرف المهرجان أخذ يسير عليه منذ الدورة الماضية، حيث يطبع كراس مرافق للشخصية السينمائية التي تُكرّم. هنا حوار خاص بپ"الحياة"مع خليفي تبع حفل التكريم مباشرة: تحب أن تعرض أفلامك في العالم العربي كما تقول، ولكن أنت في اللحظة التي أخرجت فيها"الذاكرة الخصبة"كنت تؤسس لقطيعة بمعنى من المعاني مع هذا العالم..!! - لو عدت إلى تلك الفترة التي أخرجت فيها هذا الفيلم، فإنني سأتفاجأ بمهاجمة العالم العربي لي. أنا أحقق أفلامي بحب خالص لموضوعي، ولناسي، ولكل العناصر التي تصور طبيعة صافية مثل لون السماء. ثمة استمرارية وخاصة في"الذاكرة الخصبة". استمرارية لكل شيء كان يحدث من حولي. لقد هذبت نفسي منذ أن كنت طالباً في السبعينات من القرن الماضي، وكنت أقرأ الأدبيات العربية والفلسطينية والأدب العربي في شكل منتظم، ولم أشعر للحظة أنني أقف خارج مكاني أو ثقافتي. ما قصدته بالقطيعة هو أن حتى تلك اللحظة كان العرب هم من يصنعون سينما عن القضية الفلسطينية، وجئت أنت بفيلمك لتستلم المبادرة..!! - هنا ثمة استمرارية من نوع ما أيضاً، فأخذ المبادرة مسألة فهمتها في ما بعد عندما عرض الفيلم في مهرجان قرطاج عام 1980. أنا عندما حققت الفيلم كان إحساسي يقول لي، إننا أصحاب قصية عادلة، لم نكن نستطيع الدفاع عنها سينمائياً. المسألة برمتها لا تكمن بأن من حولنا يكرهوننا بقدر إننا لم نستطع أن نتوجه إلى هؤلاء بخطاب مقنع ولغة عصرية. هذا هو ما حاولت أن أقوم به بكل بساطة... أن أقدم التجربة الفلسطينية بكل أبعادها الإنسانية. هل تعتقد أنك نجحت في هذا التقديم؟ - أنا لا أستطيع أن أكون حكماً على تجربتي وعلى نفسي، ولكنني أستطيع أن أقول إن التجربة الإنسانية التي أتحدث عنها منذ"الذاكرة الخصبة"وحتى"نشيد الحجر"مروراً بپ"معلولا تحتفل بدمارها"وپ"عرس الجليل"، كانت محاولة للتأسيس لسينما فلسطينية بكل معنى الكلمة. كانت هناك محاولات دائمة لإعطاء الإمكانية لمن يكون في وسعه أن يشارك بصوغ أشكال سينمائية وفنية وأدبية مع مبدعي العالم كله. نحن انطلقنا بالسينما الفلسطينية من المحلية نحو العالمية وبانفتاح واسع على الإنسانية جمعاء. جسر ما أين تكمن هنا العناصر التي جعلتك تصل إلى هذه المفاهيم وتقبل بها بالتالي على أنها مسلمات؟ - في اعتقادي أن"الذاكرة الخصبة"شكل بداية لبناء جسر بين الماضي والحاضر والمستقبل. أنا كنت أعتقد في شكل من الأشكال أن من دون التفريق بين الأزمنة، سيكون من المستحيل بناء زمن فلسطيني خالص، ذلك أن الخلط بين الأزمنة سيضعنا خارج الزمن. فالإنسان الحديث هو الذي يعرف موقعه في الزمن الحاضر وعلاقته مع مستويات الأزمنة التي تحيط به وتساكنه: الذكرى، التأريخ، الذاكرة الذاتية، الذاكرة المقصوصة، ذاكرة العائلة، الذاكرة الجماعية الخ...، ولكن يوجد هناك أيضاً الزمن الذهني الذي هو أساس الإنسان الحديث، فهو فعال في علاقته مع عناصر الواقع التي تحيط به، ويؤثر عليها بجدلية حاسمة مؤداها أن في استطاعته بناء ذاكرة ذاتية تنطلق من حاضره، وفي استطاعتها أن تنقله إلى ذاكرة مستقبلية. كيف يمكن أن توضح ذلك؟ - على سبيل المثال، أنا أجلس معك الآن وهذا لا يلغي أنني أفكر. لنفترض في أول لقاء لنا منذ سنوات، وفي الوقت نفسه، وأنا في هذه الحالة الحاضرة يكون في استطاعتي أن أطلق العنان لتداعيات ذاكرة مستقبلية أرى فيها إمكان تحقق شروط لقاء مستقبلي في سورية، أو في فلسطين، أو في قبرص، أو في كل هذه الأمكنة مجتمعة في الوقت نفسه. هناك أيضاً الذاكرة المعلقة التي أستطيع أن أضعها ليس في إطارات على الحائط فقط، أو في ألبومات، أو في مكاتب، وانما في ذهني. هذا يوضح لنا ديناميكية علاقة الذهن مع عدة إمكانات أخرى وتنوعات للذاكرة. ومن هنا يولد إمكان حركة الإبداع واستقراء الماضي بعيون الحاضر لمستقبل أحسن أو أسوأ. وهذا ما يفسر عنوان فيلمي الأول"الذاكرة الخصبة"، فخصوبة الذاكرة تأتي من وعيي بأنني أتطلع إلى الماضي، وهذا حد قاطع في عيون الحاضر لمستقبل طالما تمنيت أن يكون أفضل وأجمل. أين فلسطين من كل هذا التنوع في الذاكرات ؟ - لو لم أع بأن فلسطين التاريخية ليست واقعاً فحسب، بل ذاكرة، وفلسطين الأرض ليست فلسطين الذاكرة، وإنما فلسطين اليوم، لكان من المستحيل إنجاز هذا الفيلم. لتوضيح رؤيتك لفلسطين المستقبل يجب عليك القيام بحداد على فلسطين الماضي، وهذا هو ما ينقص في لقاء الثقافة العربية إجمالاً، فعدم وعينا بتفتيت الأزمنة المركبة ووضع حدود فاصلة لكي يتحقق الفصل بينها بغية إعطائها مكانها الصحيح، أوجد أناساً يحاكون الماضي كأنه حاضر، والأخطر من ذلك أن هناك من يحاكي الماضي وكأنه مستقبل..!! بهذا المعنى كيف يمكن لنا ترسيم الحدود بين صور من ذكريات خصبة وپ"الذاكرة الخصبة"؟ - دعنا نقول إن الفيلم هو الحدين معاً، فأنا كنت دائماً ضد كل ما هو شمولي وما زلت، لهذا خفت أن تؤخذ الذاكرة الخصبة على أنها ذاكرة شعب بأكمله، وقد حاولت أن أضع في العنوان العربي للفيلم بعضاً من التواضع داخله. مشهد في الفيلم بالعودة إلى مشهد الحصان من فيلم"عرس الجليل"في حقل الألغام... هل يستوي الصراع الفلسطيني ? الإسرائيلي برأيك بهذه الطريقة في الواقع؟ - لا يجب انتزاع المشهد من داخل صيرورة الفيلم، في علاقة قوة بين نظامين ممثلين لشخصين، هما الحاكم العسكري الاسرائيلي، ومختار العائلة الذي يمثل السلطة البطريركية. ثمة وضع تراجيدي يتحول فيه الناس إلى حجارة شطرنج. تبدأ عملية تحرر هؤلاء الناس من هذا الوضع المأسوي الذي وضعوا فيه رغماً عنهم، ذلك إن تراكم الأحداث الصغيرة يصبح تدريجاً مقاومة شعبية. وكل تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة ومنها تعدد الشخصيات: الجدة، الجد، أخت العريس، أخو العريس الصغير، اللعب مع الحصانين، والمخمورين، تضع علامة السؤال، وهي من تقوم بعملية المقاومة وتنظيمها. الحصان في حقل الألغام يحمل بالنسبة إلي عدة مستويات: الأول، مستوى تاريخي نرى من خلاله كيف كان الاسرائيليون يضعون الألغام كي يمنعوا الفلسطينيين من العمل في أراضيهم. الثاني، هو الاستعارة بحد ذاتها، فواقعنا يقول لنا إننا موجودون جميعاً في حقل ألغام، وبخاصة روح الحرية المتوثبة فينا، فالطفل بريء، والحصان بريء. والسؤال هو من المسؤول عن وضع الحصان في هذه الحقل الخطر. بالنسبة إلي الإجابة واضحة، انه العسكريتاريا الإسرائيلية، وهذا ما أردت أن أقدمه للمشاهد. من جهة أخرى فإن علاقة العسكري الإسرائيلي مع الطبيعة، بما فيها طبيعة الحصان، وعلاقة المختار العجوز الفلسطيني الذي يقيم علاقة انسجامية مع الحصان ومع الأرض تتيح التدخل لمستوى ثالث، فليس للحداثة بسلاحها أن تكون على حق أكثر من علاقة الإنسان البسيط المنتمي لعالمه مع هذه الطبيعة. كيف تكون علاقتك مع العسكريتاريا الإسرائيلية عندما تصوّر في فلسطين؟ - لا يمكن القول إنها علاقة جامدة، ففي"الذاكرة الخصبة"ثمة بعض المشاهد التي كان من المستحيل تصويرها، وكنا نقوم بسرقتها، كما جرى مع تصوير المستعمرات والدوريات، وحتى تصوير سجن رام الله الذي أصبح الآن هو مكان المقاطعة. على أية حال لا يجب أن ننسى إن لأول مرة تصور في فلسطين تظاهرة من وجهة نظر فلسطيني. لماذا تبدو لمن يراقبك من بعيد وكأنك يائس أحياناً؟! - الذي يدفعني لليأس هو التفاوت الذي يحدث بيننا كلنا، وأنا من طبعي عندما لا أفهم أحداً أحاول أن أطرح التساؤلات، ولكن أجد في المقابل إن الكثيرين ممن يتوجهون إلى أعمالي إنما يفعلون ذلك بناء على أحكام مسبقة، ولا يبحثون عن تشابكات العمل، فهنا يحدث اليأس، لأن ليس هناك تواصل، بل عزلة تامة. هل ما يقلقك هو عدم التواصل مع الجمهور في العالم العربي؟ - عندما يقف أناس ضدك في الخارج فهذا لأنك أنت ضدهم، وهذا واضح ومفهوم، وأنا ليست لدي مشكلة معه. عندما عرض"الذاكرة الخصبة"في مهرجان"كان"اتصلت بي إدارة المهرجان لتبلغني بحصولي على الكاميرا الذهبية، وأنا رحبت بالموضوع، لأفاجأ بأنهم أعطوا الجائزة من وراء ظهري لفيلم ألماني. أفهم كل ذلك، فهذا كان واضحاً في ذلك الوقت، فقد كنا في حالة حرب، لكن لا أفهم لماذا يبقى العالم العربي مغلقاً في وجهي. أنا لا أفهم سبب هذه الحرب المعلنة ضدنا. نعم الكل يخاف من أن يفقد كرسيه، والمأساة على ما يبدو تكمن في هؤلاء الصغار الذين أغلقوا الأبواب على كل العناصر الحية في المجتمعات العربية كي لا تتقدم.