يعكس انقسام الواقع السياسي ذروة انعكاس الوعي والوعي المضاد، في تقابل ايديولوجي لا يخطئه الحدس ولا يخطئه الفكر، ذلك أنه حين يتحول العديد من الصراعات الداخلية الى صراعات ايديولوجية، واندراجها في إطار أشمل من الاصطفاف الى جانب قوى الصراعات الخارجية، فهي إنما تحمل صفات وسمات الايديولوجيا الخالصة. فهي بالقدر الذي تريد الانعتاق من هيمنة وسطوة وسيطرة قوى الدولة الوطنية، حيث تنزع القوى الدينية الى التقليل من شأنها - الدولة - وضرورتها، بل هي تسعى الى تقويضها بعد إضعافها، كلما أمكن ذلك، بهدف الوصول الى تلاشيها واضمحلالها كقوة فاعلة، وكرصيد رمزي لوطنية جامعة، وذلك كخطوة تروم بناء هيمنة مضادة للدولة وللمجتمع كناظم للاجتماع الإنساني. وفي واقع تنفجر فيه الايديولوجيات وتفيض فيضانها الهائل، منتجة كل تلك الصراعات التي تتزايد يوما إثر يوم، لا يمكن للواقع المأمول أن يشكل بديلا للواقع الفعلي. ذلك إن الدور التقويضي الذي تلعبه الايديولوجيا بات يهدد الدولة والمجتمع وكل القيم والاخلاقيات والمبادئ وكل أشكال تنظيم المجتمعات الإنسانية. أليس هذا ما كان عليه حال الايديولوجيا الاشتراكية بدوغماها، وانفجار الايديولوجيا القومية بشوفينيتها ووثوقيتها الايمانية الأبعد ما تكون من الواقع"مثل هذه الايديولوجيات وإن استغرقت وقتا ليس بالقليل كي تنفجر، فلأنها امتلكت"وعيا عقلانيا"بدا محدودا في بدايات انطلاق الوعي القومي في التأسيس لنضاليته الحزبية، الا أن السلطة أطاحته، بل قوضته لمصلحة تكريس غطرسة وقوة البيروقراطية وأجهزتها الأمنية والبوليسية، وغطرسة"الدولة"التي أخلت مكانها لأجهزة لا دولتية ساهمت في التسريع بانهيارها، وبروز الايديولوجيات الدينية التي سرعان ما امتلكت قدرة وفاعلية التفجير لذاتها ولمجتمعاتها ولدولها، دون أن تبقي أي إمكانية لبروز أي مرجعية مضادة جديدة، تقوم مقام الايديولوجيات التي ذهبت بانفجاراتها حد الانتحار الذاتي وتفجير الواقع وإغلاقه على سلسلة من الحروب المفتوحة المتواصلة والمتقطعة المتناسلة داخليا ومع الخارج. إن الدفاع عن الدولة اليوم لم يعد يعني، ولا بأي شكل من الأشكال، دفاعا عن السلطة القائمة أو القوى المهيمنة عليها، وإنما عن الدولة بالمفهوم القيمي الاخلاقي، وضرورتها التاريخية والآنية"وعن دورها الاجتماعي ? السياسي في احتكامها للمفاهيم الديموقراطية التحويلية التي يتيحها تداول السلطة، لا تأبيدها، وجعلها في الممارسة غنيمة يمكن وراثتها أو توريثها لذرية ذوي الشوكة والغلبة على اختلاف تلوناتهم وأطيافهم . لسنا ضد الدولة إلا حين تنحط الى مستوى سلطة قامعة، أو ما دونها، لتضمحل وتندثر بفعل غيابها القسري، جراء النوازع الغرائزية المهلكة والمدمرة لحقول الاجتماع الانساني كافة، وهي نوازع معادية للدولة أساسا، كما هي معادية لكل ما لم ولن يسيّدها بديلا للدولة على شكل سلطة فئوية، بلا سقف، بلا قاعدة، بلا قانون، بلا أحقية لها في تسيّد المشهد العام الدولتي، في ما يشبه الانقلاب في الدولة وعليها، وعلى أدوارها الثابتة والمبدئية كسلطة لتنظيم الاجتماع الإنساني، بالتوافق والتراضي عبر أشكال وآليات التسيير الديموقراطي للشؤون العامة. لهذا فإن طائفية السلطة أو فئويتها، دليل أصحابها الى معاداة الدولة، والعمل الدؤوب على كل ما من شأنه التقليص من مساحة صلاحياتها الوفاقية، بل العمل على انكماشها، والإيغال بعيدا في الإسهام"الخلاق"باضمحلالها وتلاشيها. لذا تحضر الدولة في الأساس التوحيدي للوطنية الجامعة، لا في شظايا الوثنيات المتخاصمة أو الفئويات المتناحرة، والقوى السياسوية والأهلوية والشعبوية والحزبوية المتنافرة"كل يباغض الآخر ويباعد بينه وبين الدولة كعنوان انتماء وهوية وطنية جامعة. من هنا كان"الوعي"الديني يتشكل بامتياز، كمنطلق لمعاداة الدولة، انطلاقا من الأسس التي تشكل سلطته الايديولوجية، في سياق معاداة كل سلطة سوى سلطته هو"سلطة الايديولوجيا الدينية الطامحة للحلول محل الدولة، ومحل كل سلطة خارج إطارات تلك السلطة الأحادية التي تضفي عليها سمات وصفات"قدسية"عادة ما يجري إلحاقها بالشرع وبالفقه وبالنصوص المؤسسة ل"الوعي" الديني المؤسطر للواقع، كما وأسطرته لذاته ولكل ما يصدر عنه، عبر إقامة التماهي العدمي بين الذات في الواقع العملي والذات"المقدسة"في"الوعي"الديني المنقسم على ذاته بالأساس والمنغلق على سردياته الخاصة. الخروج من الدولة ليس كالخروج عليها، وإن كان الدخول في الدولة لا يعادل التماهي بها أو معها طالما أن ليس هناك من دولة للطائفة أو للمذهب أو للفئة السياسوية أو الطبقوية. إما أن يكون هنالك دولة بالمعنى الحقوقي القانوني أو لا يكون هنالك دولة بالمطلق. الدولة لا تملكها الفئويات أو تؤسس لوجودها، بقدر ما هي نتاج مجموعة عوامل موضوعية قبل ان تكون ذاتية أو نتيجة وعي بضرورتها الموضوعية، في استبعاد لعناصر المصلحة أو المصالح المرسلة لذات أو لذوات اجتماعية، تريد تكريس هيمنتها وغلبتها عبر تشكيلها شكلا هرميا لسلطة تتساوق مصلحيا ومجموعة من الناس، على اختلاف عصبياتهم وعصبوياتهم الطوائفية أو المذهبية او الفئوية. إن وجود مجتمع مدني قوي ومتحد على أهداف استراتيجية عليا، يرسخ تقاليد تمثيلية سياسيا وثقافيا، ويمكنه أن ينشئ شبكة من المؤسسات والعلاقات، يمكن بدورها ان تتيح قدرا من السهولة واليسر في الانتقال نحو الديموقراطية، كما حصل في عدد من بلدان اوروبا الشرقية حيث وجود مؤسسات مجتمع مدني قوي. إلا أن ما تشهده بلدان أخرى من صعوبات ومعوقات مثل هذا الانتقال، فهو نتيجة غياب تقاليد مجتمع مدني قوي، ما جعل الأمور تؤول من نظام تسلطي الى نظام تسلطي آخر، ما حال دون تفكك الدولة وأيضا كان كفيلا دون الانتقال السلس الى الديموقراطية. بهذا المعنى، المجتمع المدني يشكل الأرضية والقاعدة الصلبة القادرة على تهيئة شروط ومعايير وآليات إنجاز ديموقراطية حقيقية، لا تنحرف عن مآلات الدمقرطة والأهداف الطبيعية لتلك العملية، أو الابتعاد عن آليات تطبيقها. من هنا كانت معاداة السلطويات البيروقراطية المدنية العلمانية والعسكرية والثيوقراطيات الدينية، على اختلافها"لوجود مجتمع مدني قوي متحرر من هيمنة كل تلك السلطويات. إن قهر المجتمع المدني جراء القمع البوليسي لأنظمة الاستبداد الشمولي والبيروقراطية العسكرية والثيوقراطية، لا يمكن أن يبقي لهذه الأنظمة أو لسلطاتها التي تلجأ الى مثل هذا القهر، أي صبغة ديمقراطية أو صفة نزيهة أو سمة الدول العقلانية الناجحة. القهر هنا قهر انتقامي لا ينتمي الى السلوك الطبيعي، وإنما يرد كرد فعل ناتج عن ممارسة المجتمع المدني وقواه"لما يتنافى وسلوك السلطة القمعي الاستبدادي، خصوصا في مواجهتها لمعارضيها من أحزاب وقوى سياسية واجتماعية ونخب تعادي مسلكيات الاستبداد التسلطي. بالطبع نحن نريد الديموقراطية، ولكن لا نستطيع الوصول الى تجسيدها فعلا عمليا متحققا، فكيف يمكن تحقيقها ؟ الديموقراطية مطلوبة لذاتها كوسيلة، كهدف، كممارسة، لا لأهداف خاصة أو لغايات أنانية ضيقة لأشخاص أو لمجموعات ولجماعات بعينها، ومع الديموقراطية وقبلها لا يمكننا أن نستقيم أو يستقيم وجودنا الفاعل دون وجود الدولة، أو وجود مجتمع مدني داخلها قادر على الصرف والتحويل، واستثمار وعيه استثمارا خلاقا، للحفاظ على إبداع وجود الدولة المتحررة من كل مكبلات انطلاقتها وتحولانها المبدعة. والدولة تكف عن كونها دولة حين تتسحب من مهامها الدولتية باتجاه تحويل نفسها الى هيئة خاصة ب/ أو لمجموعة ضيقة من أفراد أو عائلات أو قبائل، أو مجموعة عشائر متضامنة متكافلة تنجح في فرض هيمنتها وشوكة غلبتها داخل المجتمع في لحظة ما، جاعلة من ذاتها المرجعية الايديولوجية الأولى والأخيرة لتفسير حالها وأحوالها، وما على الآخرين سوى الخضوع لمثل هذا التفسير. إن اسقاط نظام استبدادي، على يد قوى داخلية أو قوى خارجية، لا يؤدي بالضرورة وبشكل ميكانيكي الى قيام نظام نقيض، ديموقراطي أو أي شكل من أشكال الأنظمة. فالديموقراطية غالبا هي ثقافة أولا وهي ثقافة أخيرا، وفي غياب أية آليات ومعايير تسييد مجتمع مدني طالما افتقدتها مجتمعات خضعت لآليات استبداد تسلطي شمولي، لا يمكن ان نشهد انتقالا سلسا باتجاه قيام دولة أو الاحتفاظ بها دون الغرق في الفوضى وغياب الدولة أو تلاشيها. * كاتب فلسطيني.