نقرأ ونسمع من يقول إن سبب ارتفاع سعر الأرز هو إعادة تصديره إلى دول أخرى. ونسمع كذلك من يقول إنه بسبب"جشع"التجار، والدليل المزعوم أنه توجد كميات ضخمة من الأرز في مخازن التجار سبق لهم استيرادها حينما كانت الأسعار متدنية. ولا خلاف في أن أسعار كثير من المواد الغذائية ارتفعت. ولا خلاف في أن أسعار مواد أخرى لم ترتفع فحسب بل تضاعفت أحياناً، كالتمديدات الكهربائية وبعض أدوات البناء الأخرى. فما الأسباب التي تتفق مع أساسيات علم الاقتصاد؟ في البدء، إذا كان سبب ارتفاع الارز هو إعادة تصديره أو جشع تجاره، فالسؤال: ما سبب ارتفاع أسعار"الباستا"في إيطاليا؟ هل هو جشع تجار القمح - الذي تصنع منه طحينة"الباستا"- أم إعادة تصديره إلى دول أخرى؟ وما أسباب ارتفاع سعر الارز في بلدان منتجة له كالصين وفيتنام والفيليبين والهند؟ ثم ما سبب تضاعف أسعار التمديدات الكهربائية وغيرها مما يحتوي على معدن النحاس؟ بالنسبة إلى النحاس هناك سببان لا ثالث لهما: أولاً: الإضراب الذي شمل عمال أكبر منجم للنحاس في احدى دول جنوب أميركا. ثانياً: النهضة الصناعية الكبرى في الصين وتقدم الهند في صناعة الكومبيوتر ومستلزماته، التي تحتاج إلى تمديدات تحتوي على النحاس، إضافة إلى زيادة نسبة متوسط النمو الاقتصادي في العالم ككل بصورة عامة. ولا علاقة لتجار هذه المواد بالارتفاع الذي شمل العالم أجمع. والنمو الاقتصادي المذهل الذي مرت به الصينوالهند، ولا تزالان تمران به، رفع الطلب على جميع المواد الأولية بما في ذلك الحبوب بأنواعها كافة. وجميع المحاصيل الزراعية تتأثر إيجاباً أو سلباً بالتغيرات المناخية والجوية. والجفاف غير العادي الذي مرت به وما زالت تمر به أستراليا، وهي من أهم مصدري الشعير، ومن كبار مصدري القمح أيضاً، أثر في أسعار الحبوب. وعلى رغم وجود أو غياب الإعانات للمزارعين، فإن تجارة الأغذية تجارة كونية، حقيقة لا مجازاً، بحيث إن تغيرات الجو في كندا أو البرازيل أو أستراليا أو الوسط الشمالي من الولاياتالمتحدة، والفيضانات في تكساس وهي من كبار مصدري الارز تؤثر بنسب كبيرة ملموسة في أسعار المواد الغذائية، في دول العالم كافة. وتزايد استخدام الذرة كمصدر للطاقة أثر أيضاً في قيمة الأعلاف، إذ أدى إلى رفع الطلب على مصادر أعلاف أخرى كالشعير وفول الصويا... إلخ، والنتيجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العالم أجمع، وإن كان بنسب متفاوتة وفقاً للظروف المحلية. أما الأسباب الإضافية لارتفاع الأسعار في السعودية، حتى بالنسبة إلى مواد غير مستوردة، فتعود في نهاية المطاف إلى زيادة مستوى السيولة نتيجة لزيادة الإنفاق الحكومي، لرفع نسبة النمو وزيادة الطاقة الاستيعابية للاقتصاد الوطني السعودي. إن زيادة الإنفاق وارتفاع مستوى السيولة يؤديان بدورهما إلى تصاعد الكميات المطلوبة من السلع والخدمات، ما يؤدي لا محالة إلى ارتفاع الأسعار. وبالطبع ونتيجة لكل هذه التغيرات أضحينا نقرأ ونسمع عن التضخم وعن وسائل علاجه، حتى تصدى لهذه الأمور الفنية المعقدة من لم يتجاوزوا درساً واحداً من مبادئ علم الاقتصاد. إن خفض السيولة المتعمّد سيؤدي إلى خفض أسعار بعض المواد، غير أنه في الوقت ذاته سيؤدي إلى خفض نسبة النمو، وإبطاء عجلة التنمية وزيادة نسبة البطالة. وهنا ينبغي تحديد معنى التضخم كما يعرفه الاقتصاديون المهنيون من ممارسين وأكاديميين على حد سواء. إن"التضخم"هو الارتفاع المستمر للمستوى العام للأسعار. وكلمة"مستمر"مهمة، فليس كل ارتفاع، مهما كانت نسبته، تضخماً. وكلمة"العام"لها معنى محدد. فمن الطبيعي في جميع الأسواق الحرة أن ترتفع أسعار أشياء وتنخفض أسعار أشياء أخرى. والمختصون في مؤسسة النقد السعودي لديهم سلة محددة يتم عن طريقها تحديد نسبة التغير العام لأسعار مكونات هذه السلة، مثلها مثل بقية البنوك المركزية، لتحديد معنى كلمة"عام"في مجال تحديد نسبة التضخم. وبالطبع قد يختلف الاختصاصيون حول مدى دقة مكونات السلة ونسب مكوناتها، ولكنها اختلافات فنية لا تلفت نظر أحد غير طلاب الدراسات العليا، حينما يدققون فيها للمرة الأولى. وبعبارة أخرى، أية سلة معقولة تؤدي الغرض. والأرجح أن هذا الجانب الفني ليس مصدر حماسة المتحدثين عن التضخم من عموم الكتاب والمعلّقين. بقي أن نؤكد أن قياس تغيرات الأسعار لا معنى له من دون تحديد سنة أساس سابقة. بمعنى أن تؤخذ نسبة تغيرات أسعار مكونات"السلة"نسبة إلى ما كانت عليه في سنة الأساس. وفي الختام، فإن علم الاقتصاد لا يعترف بكلمة"جشع"، لسبب واحد هو أنه يصعب تحديد معنى كلمة"جشع"تحديداً علمياً لا يتناقض مع أولويات علم الاقتصاد. إن"الجشع"وصف نسبي، ككلمة"جميل"أو"قبيح"أو غيرهما من الكلمات الوصفية. وأحد أركان علم الاقتصاد التي يرتكز عليها، أن الناس جميعاً، بصفتهم الفردية، حريصون على مصالحهم. وجميع الناس يريدون المزيد من كل ما يرغبون في الحصول عليه من أشياء مادية أو معنوية. فإن استطاع التاجر الحصول على سعر أعلى، حتى لو أراد وهب أرباحه لمساعدة المحتاجين، فإنه سيحرص على البيع بأفضل الأسعار. والمشتري بدوره يود أن يشتري بأقل الأسعار، ولا يهمه كثيراً، في معظم الأحيان، إن حقق البائع الربح أو لحقته الخسارة. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي.