يستأنف المثقف والمفكر الأردني فهمي جدعان - اليوم - إنتاجه الفكري الرصين بكتابه الأخير"في الخلاص النهائي: مقال في وعود الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين"، بعد أن قدّم للمكتبة العربية مراجع مهمة في مقدمتها كتابه الموسوعي"أسس التقدم عند مفكري الإسلام"الذي يعدُّ مرجعاً لا غنى عنه في تاريخ الأفكار الإسلامية، وكتابه"المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي"وكتبه المتعددة الأخرى الطريق إلى المستقبل، الماضي في الحاضر، رياح العصر، نظرية في التراث. وفي كتابه الأخير يتجاوز جدعان أزمة الصراع الطاحن بين الاتجاهات الفكرية والسياسية العربية اليوم، ويعبر إلى العمق المعرفي للمشاريع الفكرية العربية المطروحة بعيداً عن اللغو والجدال الذي لا يخرج عن نصوص أيديولوجية مليئة بالثغرات! "في الخلاص النهائي"بمثابة مقاربة معرفية على درجة من الأهمية والجدية الكبيرة، تسعى إلى تفكيك ونقد مقولات التيارات الفكرية- السياسية العربية الرئيسة اليوم، التي تتوافر على شروط الفاعلية المستقبلية، وهي تيار الإسلام السياسي والتيار العلماني والتيار الليبرالي، ويطرح جدعان السؤال الجوهري، في صُلب مرافعته المعرفية،"ما هي الوعود التي يُقدّمها كل من هذه التيارات للشعوب العربية اليوم؟ وما مدى منطقية هذه الوعود وقوتها ودرجة وثوقنا بقدرتها على تحقيق حياة كريمة حرة أفضل في المستقبل؟...". منذ الصفحات الأولى لمقاربته يعلن جدعان، بجرأته الفكرية المعروفة، أنّ رؤيته تقوم على استبعاد النزعة الأحادية لكل تيار، وفي المقابل على بناء مركب فكري سياسي تتضافر فيه التيارات الثلاثة لتقدم جواباً يقطع مع حالة التكرار والاجترار والصراع الداخلي المرير الذي يقوم على نفي كل تيار للآخر دون إدراك حقيقي لمقولاته وآفاقه، ولا يخشى جدعان أن يُرمى بالنزعة"التوفيقية"التي أصبحت بمثابة"فزّاعة"لإرهاب المثقفين الذين لا يستسلمون للمقولات الأيديولوجية الإقصائية للآخرين. في فصول الكتاب يغوص جدعان في المنظومات الفكرية الثلاث ويُقلّب مقولاتها وبُناها المعرفية وتطورها التاريخي ومذاهبها ومدارسها، وينفلها من الداخل مُقدّماً رؤى نقدية في داخل كلًّ منها، ليؤسس لمقاربته على أرضية ثابتة متينة، من خلال مقدّمة أوّلية وهي أنّه يوجد تعددية ومدارس وخطابات داخل كل منظومة، وأنّ المسألة ليست حدّاً قاطعاً ولا فاصلاً، وهنالك تمييز بين الفلسفة أو الأفكار المؤسسة لكل منظومة وبين الاجتهادات الفردية والتلبُّسات التاريخية التي علقت بها وتغوّلت على غائيتها الحقيقية. وما دام الأمر كذلك، فإنّ هنالك إمكانية كبيرة للتخيّر في هذه المنظومات بما يؤدي إلى خلق مركب فاعل منها يقدّم خطاباً جديداً يؤسس لطريق"الخلاص النهائي"ولدور أفضل للفكر العربي في الأزمة الراهنة بل المُزمنة. على الصعيد الإسلامي يطرح جدعان أفكاراً نقدية، جديرة بالقراءة والجدل، مميزاً بين"وعود الإسلام"و"وعود الإسلاميين"مشيراً إلى الانحراف الكبير في مسار الحركات الإسلامية جرّاء تورطها في صراعات سياسية طاحنة اختطفت الإسلام ودوره من آفاق مقاصده الحقيقية الإنسانية إلى دوائر ضيّقة تتمثل بنماذج سياسية مقولبة محصورة رجّحت السياسي على الإنساني والحضاري. ويطالب جدعان الإسلاميين بمراجعة كاملة للمسار العام والعودة إلى القيمة العليا في الإسلام"العدالة المقترنة بالمصلحة". أمّا على الصعيد العلماني"فيميز جدعان بصورة رئيسة بين العلمانية الصلبة واللينة، ويرى أنّ العلمانية الأولى هي وليدة ظروف تاريخية مغايرة للخبرة الإسلامية تبلورت في سياق صراع الطبقات الجديدة في أوروبا خلال القرون السابقة مع السلطة الدينية والزمنية المتحالفة معها، وأدّى هذا الصراع ببعض الاتجاهات العلمانية إلى حالة أقرب للإلحاد وإنكار الدين بالكلية. النواة الأساسية في العلمانية على الصعيد السياسي تتمثل بالحياد واستقلال المؤسسة الدينية عن السياسية وإطلاق المجال للحريات الدينية والمدنية، وهذا لا يتناقض في جوهره مع الإسلام. وعلى المستوى المعرفي تقوم الفلسفة العلمانية على استقلال العقل، لكن جدعان يرفض الاستقلال المطلق للعقل، ويرى أنّ الاستقلال الممكن هو"النسبي"المؤدي إلى"التكاملية""أن يكون للعقل دوره المحوري متضافراً مع الدين، مع تقديم المصالح والواقع في فهم النصوص، وهو ما يدفع جدعان إلى استدعاء مقالات"المدرسة الإسلامية العقلانية"، وبالتحديد مقاربات ابن رشد وابن خلدون للتأكيد على الأرضية المشتركة بين المدرسة العلمانية والإسلامية. في المنظومة الليبرالية"ينتصر جدعان لليبرالية الناعمة أو على حد وصفه"الإنسانية الاجتماعية- التضامنية"التي تصون الحريات السلبية الفردية وتعزز الحريات الإيجابية الواجبات والمسؤولية، موجهاً نقداً حضارياً وفكرياً لليبرالية الجديدة أو"الليبرتالية"التي تدعو إلى"الحد الأدنى من تدخل الدولة"وسيطرة السوق بالكلية ولو كان ذلك على حساب"الحد الأدنى"من العدالة والتكافل، ومن المسؤولية التضامنية التكافلية بين أفراد المجتمع. فجدعان وإن كان يؤكد على أهمية قيمة الحرية في الفلسفة الليبرالية إلاّ أنه يرفض الفصل بين السياسة والغائية الأخلاقية من ناحية وتجاهل البنية الاجتماعية العربية من ناحية أخرى. إذن"ثمة - بالفعل- أرض حقيقية راسخة يمكن الوقوف عليها لبناء مركب الإسلام العلماني الليبرالي"من خلال التأكيد على روح التشريع الإسلامي ومقصده الأساسي"العدل المقترن بالمصلحة"والقيم المجاورة له، ونواة العلمانية الجوهرية"العقلانية التكاملية"ونواة الليبرالية التضامنية"الحرية الإيجابية". ويرى جدعان أنّ هذه المقاربة يمكن أن تُوجّه الثقافة وتخلق حراكاً"يأذن بإدراك نتائج واقعية"تنعكس على المجتمعات العربية. يبقى السؤال الذي يطرح نفسه"ما جدوى هذه المعادلة؟ والجواب لأنّ المنظومات الثلاث في صيغها الحالية عاجزة عن تقديم إجابات واقعية للأسئلة الحضارية والسياسية الملحة، فهنالك ضرورة لإعادة قراءتها والتفكير في طريق"الخلاص الملكية"، وهي طريق يمكن الوصول إليها بقراءة معرفية رصينة للمنظومات الثلاث، وليس الأمر ببدعة جديدة بالكلية. فمن يقرأ تراث ابن رشد قديماً ومحمد عبده حديثاً يجد أنّ هذا"النموذج"حاضر في خطاب هذين الشيخين"الليبراليين"اللذين أحدثت الحركات الإسلامية"السائدة"قطيعة معرفية وفكرية مع تراثهما! * كاتب وصحافي أردني.