كيف تتشكل الأصوليات؟ وما هي علاقة الفلسطيني بهذا الحقل المفاهيمي على مستوى الشكل والنزوع، وكيف وصل الفلسطينيون إلى حالة من الاحتفالية الأيديولوجية الإنعزالية في ظل التدهور والتراجع الذي أصبح سافراً، وتجاوز أي أيديولوجيا في التأويل والنفي وإثبات الوقائع وسيادة شكل ممل من الجدل الذي حوّل المشهد إلى خطابٍ منتفخ يحمل أشكالاً خاوية من أي دلالة، بمعنى أن الأصل النص، والواقع يغيبان وتحضر التأويلات بشكلٍ عبثي؟ إن احتفالية الأراء تتصاعد ويعلو ضجيجها ويغيب الموضوع، فكل رأي ايدولوجيا يصنع موضوعه هو بدلاً من أن يقول رأيه فيه. لقد شكّل الأرشيف الفلسطيني من الحوادث والقضايا والأيديولوجيات والتجارب، حالة اصطفاف متسارعة، حوّلت أي خطاب فيما بعد إلى أصولية شبه مطلقة، لا تؤمن بالانفصال بين كونها حاملاً نسبياً لمعنى الوطن وبين التجسيد الفعلي للوطن زمانياً وجغرافيا، فلا وجود للوطن خارج هوية التعريف الذي سيتحوّل إلى أصولية في ما بعد. وبشيء من المغامرة يمكن القول إن تاريخ النضال الفلسطيني بدأ بالنزاع على شرعية التمثيل وانتهى بالإقصاء على وحدانية التمثيل في حالة متسارعة من تصليب الأصوليات وتحويلها إلى معادل موضوعي للوطن، علماً بأنها بدأت وتباهت بكونها منظومة فكرية. بدأ التاريخ الفلسطيني المعاصر بتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية التي تحولت في ما بعد زمنٍ ليس بالطويل إلى شكلٍ مطلق للتمثيل الفلسطيني بعوامل كفاحيّة وجدانية، واستطاعت بالفعل أن تبلور المفهوم السياسي للهوية الوطنية وحازت على التجسيد السياسي لهذا التمثيل من خلال خطاب الرئيس الراحل ياسر عرفات في الأممالمتحدة عام 1977، لكن نرجسية البداية والسبق حوّلت هذا الكيان وخاصة عموده الفقري حركة فتح، إلى ما يشبه الأيقونة التي جرت أسطرتها وتحويلها في لا وعي الأجيال اللاحقة إلى حالة من العذرية الثورية التي لا يمكن أن تتكرّر بمجوعة من الرموز: القرار المستقل، العنف الثوري...، ووصلت إلى حد القول ان منظمة التحرير هي الدولة وليست حزباً في الدولة، وهذه البذرة الأولى لصناعة الأصولية الفلسطينية المعاصرة. في البيت نفسه، كانت تتشكل أصولية مضادّة، تعتاش على أخطاء وسلوكيات الخط الرئيسي داخل المنظمة. أعطى هذا التيّار لنفسه منطلقات أيديولوجية معقدة شبه أكاديمية فلسطينية لبناء بذور أصولية، من خلال التيار البورجوازي، داخل المنظمة، والعلاقة مع الانظمة، غياب الايديولوجيا، والتنبؤ بنهاية هذا الخط واضمحلاله لأنه ضد خط التاريخ المقصود حركة فتح، وهنا بدأت عقدة البديل تأكل جسد منظمة التحرير، بمنطلقات لا ندري كيف محاكمتها بعد عشرات السنين في ظل تراجع المفهوم اليساري وبداية معاناته مع تيار بورجوازي بدأ يزحف إلى صفوفه الأولى، وكلما تعقدت الأزمة وتراجع التيّار الماركسي أكثر تحوّل إلى حالة غنوصيّة، داخل أيديولوجيا وتحول الى أصولية لغوية تفوق أحياناً أصولية النصوص الدينيّة. ظلّت هذه الحالة رغم تجاذباتها قادرة على الحفاظ على وحدة تمثيل الشعب الفلسطيني، واستطاعت أن تتعايش بالفعل وقادت الانتفاضة الأولى بكل نجاح رغم الأخطاء، ووصلت لذروة نرجسيتها في أحداث الانتفاضة الأولى التي صلّبت وحدانية تمثيل منظمة التحرير وجعلت من قيادتها المفتاح الأوحد للحل والربط. شهدت ذروة الانتفاضة الأولى انفجاراً أيدبولوجياً دخل بقوّة لينازع المنظمة على شرعية التمثيل وشرعية الوجود أصلاً، وكان لا بد للتيار الاسلامي في هذه المرحلة من الاعتماد على منظومة فكرية معقدة ونافذة تستطيع مقاومة التاريخ السياسي والفكري والثقافي لمنظمة التحرير التي تتمتع بالشرعيّة التاريخيّة كونها رصاصة البداية، وبالشرعية الجماهيرية كونها تمثل الغالبية، وبالشرعية السياسية لأنها باتت تمثل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. لقد كان التيّار الاسلامي يعلم أنه بحاجة إلى معجزة لاختراق ذلك التراكم الذي جسّدته أصولية منظمة التحرير، ولم يكن قادراً على تفكيك هذه المنظومة القومية العلمانية، سوى بمنظومة معاكسة على مستوى التجريد، لا بد للواقع أن يكون لصالحها في تلك المرحلة. فبدأ التيار الاسلامي بناء منظومة أصولية ذات طابع مقدّس في مواجهة الطابع التاريخي السياسي الذي بنته منظمة التحرير. أولى هذه الأبجديات المعاكسة، كانت العلمانية في مواجهة الإسلام. فالمنظمة علمانية، وتقوم على باطل، وموالاتها موالاة للباطل، وقد جنّد التيار الإسلامي حُزمة من الأحاديث والآيات لتساعده على تفكيك هذه المنظومة من حيث أن الإسلام هو الحل، ولا يمكن تحرير فلسطين خارج الحل الإسلامي كمرحلة أولى. تسارعت الأحداث بشكل خدم الخطاب الأصولي الديني، فبعد أوسلو استبدلت رموز الحرب ضد المنظمة من العلمانية إلى الخيانة والتفريط، بأرض وقف إسلامي لا يحق لأحد التنازل عنها، فردت المنظمة وبالذات حركة فتح، بالقرار المستقل ودعم الأغلبية وأجريت الانتخابات عام 1996. صعّد التيار الاسلامي هجومه وحاول تكرار مشهد حركة فتح بناء تراث عسكري مقاوم وخدم الظرف التاريخي التيار الإسلامي مرة أخرى، واستطاع بالمقاومة والعمليات أن يحقق حضوراً في مقابل شرعية الأغلبية الفتحاوية، فكانت حاكمية الشريعة والمقاومة هي أدوات الحرب في مواجهة الشرعية التاريخية السياسية التي مثلتها المنظمة وحركة فتح. مع بداية الانتفاضة تصلّبت"الأصولية الدينيّة"، واشتد عودها وبدأت تشتم رائحة الأغلبية للمرة الأولى في حياتها، فبعد العلمانية والمقاومة، أصبح الاصلاح هو العنوان، وتم قلب الأولويات وأصبح للأغلبية دور يوازي دور الشرع والرأي الشرعي، بل على العكس أصبح فوز التيّار الديني في البلديات والجامعات هو العنصر الأساسي في التنافس على الشرعية التي تغنّت بها المنظمة. ولم يعد تطبيق الشريعة مهماً، ولا حتى المقاومة، فهناك مصطلح يعطي المضمون السياسي نفسه، لكنه يقترب من هيئة الدلالة الشرعية وهو"الهدنة". في ظل تقدم التيار الديني، شهد التيار الوطني حالة ارتداد أصولية مشابهة تستند إلى التاريخ الكفاحي والسبق في بناء السلطة، واجهها التيار الديني برائحة الأغلبية والمقاومة بعد تحالف خفي مع منظومات إعلامية ساهمت بتحويل الرأي العام الفلسطيني بسرعة البرق، وهو ما خطفه التيار الديني بذكاء واستطاع استثماره سياسياً ودخل الانتخابات وفاز بأغلبية مريحة. بعد هذا الفوز أصبح التيار الديني يعمل على تجسيد وحدانية التمثيل، الحلم الهاجس لحركة الاخوان المسلمين بالوصول إلى السلطة عبر"أسلمة"، الرأي العام بشكل تصاعدي. فقد استطاع التيار الديني نفي الديموقراطية والأغلبية التي تمتعت بها المنظمة خلال عقود شرعياً، في حين بدأ يجسد وحدانيته من خلال سلسلة هائلة من عمليات الإقناع والترهيب والترغيب، بدأت ب"الهدنة"، واستمرّت بالاصلاح وانتهت بالوصول إلى الحكومة وحكم الناس دون الاعتراف بأي خلل أصاب هذه الأصولية العقائدية. بدأت الحركة الاسلامية تعزف على الوتر نفسه وتطالب بثمن الأغلبية التي حصلت عليها لعام واحد مقابل نكرانها لأغلبية المنظمة نحو أربعة عقود، وكان الثمن يتطلب تشكيل وزارات، وبلديات، وسفارات، وغيرها من المكاسب السياسية. وكان لا بد للأصولية القديمة التاريخية، أن تدافع عن حقها ومنجزاتها وبقائها، وهنا بدأ صراع الشرعيات على الأغلبية مرة أخرى في ظل تراجع الحركة الاسلامية في النقابات والجامعات. ردّت الحركة الاسلامية على هذا التراجع باستغلال الأغلبية والتفويض بفرض وقائع على الأرض بجملة من التغييرات وتشكيل نواة عسكرية موازية لأجهزة الأمن التقليدية، فكان لا بد في هذه الحالة أن يدخل صراع التمثيل والشرعيات مرحلة الحسم الذي نجحت فيه حماس في غزة. رافق هذا النجاح جملة من الاجراءات اغتالت الديموقراطية واتخذت من أخطاء غريمتها تشريعاً لأخطائها، ودخل المشهد الفلسطيني صراع الأصوليات، لكن الأخطر أن الأصولية القادمة تتحالف مع الله عندما تريد، وتتحالف مع العلمانية عندما تشتهي، ويمكن تحويل مشهد قتل دموي إلى انتصار وحالة"شرعيّة". لقد دفع تنافس الشرعيات الفلسطينية وحولها بالعلاقة مع الاحتلال إلى مفهوم غريب في التاريخ، معناه أن العلاقة مع الاحتلال يتم تعريغها حسب العلاقة مع الخصم المحلي. فليس غريباً أن تصبح المقاومة والديموقراطية حصان طروادة في الحرب الفلسطينية الداخلية. يسأل الكثير ما الحل...؟ لا يوجد حل قبل الاعتراف بالخطأ. * أستاذ النظريات - جامعة بير زيت.