1- تتوافر في العراق مقومات ومصادر نهضة اقتصادية حقيقية، وتتمثل بسعة قاعدة الموارد الطبيعية الغنية والمتنوعة كالمخزون النفطي الذي يحتل المرتبة الثالثة في الاحتياط العالمي 115 بليون برميل كاحتياط ثابت و215 كاحتياط محتمل، وموارد مائية وفيرة وقوى عاملة تتعدى 8 ملايين شخص. في شأن استثمار سليم والادارة الفاعلة لهذه الموارد أن يساعد العراق على اجتياز المرحلة الانتقالية التي يمر فيها واستعادة مكانته السابقة كبلد من فئة الدخل المتوسط. وهي المرحلة الهادفة الى الانتقال من الاقتصاد الشمولي Command Economy الى الاقتصاد الحر والمنفتح على الاقتصاد العالمي، وفق ضوابط وسياسات تصون المصالح الوطنية. 2- إن بلوغ هذا التحول الشامل يتطلب النجاح في: أ - تسوية حال النزاع الداخلي واستعادة الامن والاستقرار والتقدم في عملية اعادة التأهيل Rehabilitation والتنمية الشاملة، خصوصاً اصلاح البنية التحتية وتحديث الهياكل الاقتصادية والافادة من المبتكرات والتطبيقات التقنية الحديثة. ب - التقدم في انجاز الاصلاحات الاقتصادية والانتقال من اقتصاد تسيطر عليه الدولة الى اقتصاد حر يقوده القطاع الخاص، وساعياً نحو زيادة النمو الاقتصادي وتشجيع الاستثمار، وتوسيع حجم الاقتصاد الوطني. ج - التحرر من الاتكال المفرط على عائدات تصدير النفط والمباشرة في تنويع الاقتصاد الوطني، وتوسيع موارد الدخل من خلال تطوير القطاعات الانتاجية والخدمية الاساسية، كالصناعة والزراعة والسياحة، وتأمين مقومات زيادة الصادرات غير النفطية. 3 - إن هذه المهمات والتحديات تطرح بإلحاح الحاجة الى خيارات مجدية على صعيد السياسات العامة والانطلاق من رؤية اقتصادية متكاملة ذات أولويات استراتيجية واضحة، وتستند الى منهج براغماتي يحسب الحساب الكامل لخصائص الاقتصاد الوطني العراقي وامكاناته. وينبع من ذلك تحديد مجالات التركيز على صعيد البرامج والسياسات العملية لجهة الأهداف والآليات، وتشمل المجالات الآتية: أ - تطوير الطاقة الانتاجية لقطاع النفط وتوسيع أشكال الاستثمار، بما يكفل زيادة التصدير الى مستويات جديدة، بصفته المحرك الاساس لزيادة النمو الاقتصادي في البلاد، والمصدر الرئيس للمالية العامة. وللأسف ما زال التقدم في هذا المجال دون المستوى المطلوب، ما يطرح مجموعة من الاجراءات الضرورية، ومنها زيادة الاستثمارات في القطاع النفطي واصدار قانون للنفط والغاز يؤمن تأسيس اطار مؤسسي وقانوني فاعل لادارة العمليات النفطية وتطوير أشكال الاستثمار. ب - تطوير القطاعات الاقتصادية غير النفطية تمهيداً لخلق اقتصاد متنوع ومتوازن، من شأنه أن يكفل اشباع حاجات السوق المحلية من المنتجات الزراعية والصناعية والخدمية، ويفتح الطريق أمام توجيه الاقتصاد نحو التصدير. ج - ايجاد بيئة استثمارية ملائمة من طريق اصلاح الأطر المؤسسية والقوانين في مجالات المال والتجارة والمصارف والتأمين وسواها. ولعل قانون الاستثمار الذي شُرّع منذ شهور يمكن أن يحقق هذا الهدف لو انه يفعّل على أسس صحيحة. 4 - إن مشكلتي البطالة والفقر تشكلان معوقاً أساسياً أمام النمو الاقتصادي، وهما تبلغان نسبة عالية، وما يزيد من تفاقم هذه الظاهرة التشوهات المستمرة في سوق العمل وأبرزها قلة فرص العمل وتزايد الداخلين سنوياً الى سوق العمل وعددهم 200 ألف شخص في السنة. ويشكل هؤلاء فئة اجتماعية ناشئة تُضاف الى قطاع الشباب المعطل نسبياً. ولا يتوافر امكان الافادة من طاقته الانتاجية. إذ تقدر بعض الدراسات نسبة الفقر المدقع في العراق بنحو 10 في المئة، كما أن هناك شرائح اجتماعية أخرى تتراوح نسبتها بين 12 و15 في المئة من السكان معرضة للانحدار الى مستوى مماثل. وتشمل هذه الشرائح طبقة واسعة من الشباب العاطلين من العمل والجنود السابقين والنازحين من مناطق مختلفة من العراق، فضلاً عن أفراد الميليشيات. أما معدل البطالة فيبلغ 30 في المئة، أي ما يقرب من ضعف معدل البطالة المتوسط في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا. وهناك أيضاً اليد العاملة الناقصة التي تزيد على 30 في المئة. فيما مشاركة المرأة في القوى العاملة لا تتعدى 19 في المئة ما يتطلب معالجة هذا الخلل جدياً. 5 - اعتماد استراتيجية فاعلة لتنمية القطاع الخاص، إذ لا يمكن أن تبلغ المرحلة الانتقالية نحو اقتصاد السوق هدفها ما لم تُعالج هذه المسألة بما يكفل تبوؤ القطاع الخاص دوره القيادي في الاقتصاد الوطني، وهي مهمة ترتبط في شكل مباشر بإصلاح القطاع العام من طريق التأهيل والتخصيص، وفق معايير الجدوى الاقتصادية، إضافة الى المضي في تطوير بيئة الاستثمار وسوق العمل والنمو الاقتصادي. 6 - الاهتمام بالبعد الاجتماعي بما يكفل تحسين دخول الغالبية الساحقة من المواطنين، ورفع مستوى معيشة السكان وتوفير الخدمات الاجتماعية والصحية والثقافية وسواها من المنافع التي تعود بالخير على الفئات المهمّشة والضعيفة من المواطنين، أي الجمع بين زيادة النمو الاقتصادي وتحقيق المساواة الاجتماعية على أسس عادلة وعصرية. 7 - الركن الأساسي الثاني لخلق اقتصاد جديد يتمثل في النجاح في الاصلاحات الاقتصادية، التي بدأت في ميادين جوهرية عدة، كإصلاح السياسة المالية والنقدية، واستحداث قوانين جديدة في مجال التجارة والمصارف والعمل وسواها. الا أن الشيء الأهم الواجب متابعته هو ازالة الخلل في موازنة الدولة ومعالجة مشكلة الدعم بهدف تقليص الانفاق العام، فضلاً عن تنويع مصادر تمويل الموازنة العامة. ولعل القضية الأهم في السياسة النقدية الراهنة للدولة تتركز في معالجة الضعف الملحوظ في التسهيلات المصرفية وسياسة الاقراض Lending، اذ ان لجوء البنك المركزي العراقي الى المبالغة في سياسة الانكماش Tightened Monetary policy من طريق زيادة الفائدة، أفضى الى حرمان القطاع الخاص من التمتع بالتسهيلات المصرفية بسعر فائدة مناسب، وقلص دائرة الاقراض المصرفي، وترتّب على ذلك ويترتب الاحجام عن تطوير مشاريع اقتصادية صغيرة ومتوسطة، ما يضعف حجم القطاع الخاص ويقلص دوره في الحياة الاقتصادية. فمهما تكن الحجج المقدمة لتبرير سياسة الانكماش بهدف تقليص نسبة التضخم، الا ان لعواقب هذه السياسة آثاراً وخيمة على مجمل الاقتصاد الوطني، ولا تساهم بتقديم أي حل لمشاكل البطالة وتطوير الخدمات وتوسيع الاستثمار الوطني. 8 - لا شك في أن للمعونات الخارجية أهمية خاصة في تمويل النشاطات الاقتصادية واعادة اعمار العراق. وعلى رغم الانجازات المهمة المحققة في هذا المجال، الا ان تحسين ادارة هذه المعونات ضمن رؤية مشتركة بين الجانب العراقي والدول والمؤسسات المانحة مهمة كبيرة على صعيد السياسة الاقتصادية. 9 - تفيد تجربة السنوات الاخيرة بتفاقم ظاهرة الفساد المالي والاداري، والتي أصبحت من أبرز المعوقات لاصلاح الاقتصاد الوطني، وحل المشاكل المزمنة التي تعاني منها البلاد. فالفساد بكل اشكاله أدى الى تبديد الثروة الوطنية وأظهر حجم الضعف الذي تعاني منه الدولة في ميادين المساءلة والشفافية والرقابة السليمة لحماية موارد البلاد وحقوق المواطنين. 10 - لا شك في أن هذه المهمات والتحديات الكبيرة المستندة الى رؤية اقتصادية مستقبلية واضحة وآليات وأدوات تنفيذ فاعلة على صعيد الحكومة وقطاع رجال الاعمال، فضلاً عن دعم حقيقي من جانب الدول والمؤسسات المانحة، ستفتح آفاق رحبة لخلق اقتصاد وطني فاعل ومتوازن. * عضو مجلس النواب ووزير التخطيط والتعاون الانمائي الأسبق، ورئيس معهد التقدم للسياسات الانمائية. وألقى هذه المداخلة خلال ندوة بعنوان"تشجيع الاستثمار وتعزيز دور القطاع الخاص في العراق"نظمها في لبنان معهد التقدم للسياسات الانمائية واتحاد رجال الأعمال العراقيين.