ما أن أعلنت الحكومة المصرية عن نيتها بيع غالبية أسهم أحد أكبر مصارف القاهرة، إلى شريك إستراتيجي، حتى ثارت عاصفة سياسية في مصر، ركزت، في شكل خاص، على التحذير من سيطرة المصالح الأجنبية على القطاع المصرفي، وتالياً على الاقتصاد المصري برمته. وكان قرار الحكومة صدر وسط غموض الموقف الرسمي من بيع المصرف، إلا أن مجلس الوزراء حسم الموضوع بالعزم على بيع 80 في المئة من أسهمه آخر الصيف بمزادٍ عالمي، تطرح بعده 15 في المئة من الأسهم في الاكتتاب العام، على أن تخصّص نسبة 5 في المئة الباقية للعاملين فيه. وأوضحت الحكومة أنها ستعمد إلى بيع الحصّة الكبرى من الأسهم إلى شريك استراتيجي يتمتع بخبرة مصرفية وقدرات إدارية وتكنولوجية. أعادت المسألة إلى الأذهان بيع 80 في المئة من بنك الإسكندرية مطلع هذه السنة إلى مصرف سان باولو الإيطالي، بپ1.6 مليار دولار، واعتبرت العملية خطوة ناجحة على طريق التخصيص في مصر. لكن بيع غالبية بنك الإسكندرية إلى مصرف أجنبي لم تثر العاصفة السياسية التي أثارها الإعلان عن بيع"بنك القاهرة". لقد طغت لغة وطنية متشدّدة على الحملة المعترضة على قرار بيع المصرف، محذرة من سيطرة الأجانب على القطاع المصرفي المصري، ما يفتح الطريق أمام السيطرة الأجنبية على الاقتصاد المصري برمته. ففي جلسة عاصفة في مجلس الشعب، تحدث النواب بهذه اللهجة الحادّة، فحذر النائب مصطفى بكري، مثلاً،"من سيطرة الأجانب على الجهاز المصرفي وتحكمهم في أخطر القرارات في البلاد". وأشار إلى أن بيع هذا البنك سيعيد الامتيازات الأجنبية، وطالب بحظر بيعه للأجانب وحصر البيع بالقطاع الخاص المصري وحده، محذراً أيضاً من خطورة تهريب الأموال المصرية إلى الخارج. ووصف الدكتور فريد إسماعيل، نائب الإخوان المسلمين، ما يحدث، بأنه مؤامرة على الجهاز المصرفي وسحب السيطرة المصرية على المصارف المصرية وتسليمها للأجانب. ونظم"حزب الوفد"ندوة حول الموضوع نفسه جمعت حشداً من الأصوات السياسية والاقتصادية المعترضة على البيع، وقال فيها رئيس الحزب المحامي محمود أباظة إن سبب معارضة الوفد القرار الحكومي يعود إلى رغبته في المحافظة على سلامة الاقتصاد المصري، لذلك يرى ضرورة احتفاظ مصر بقدر كاف من ملكية المصارف يمكنها من السيطرة على الجهاز المصرفي لتمويل التنمية. وأضاف أباظة أن تخصيص بنك القاهرة يتم على نهج"بنك الإسكندرية"، بالبيع لمستثمر أجنبي غير مصري، وأنه وفقاً للتجربة العملية فإن القرار الائتماني سيصدر من بلد المستثمر وليس لمصر تحكم فيه. هذه الحملة"الوطنية"ضد مشاركة غير المصريين في ملكية المصارف المصرية تعيد إلى الأذهان خطاب طلعت باشا حرب مطلع القرن العشرين. فقد حذر الرجل من سيطرة الاستعمار الأجنبي على ادخارات المصريين بواسطة الجهاز المصرفي، ونادى بضرورة تأسيس مصرف وطني برأسمال وطني يكون منطلقاً لنهضة الاقتصاد المصري وتحريره من المصالح الاستعمارية. وثابر طلعت حرب على المناداة بفكرته حتى أسّس سنة 1920"بنك مصر"، ومن المفارقات أن"بنك مصر"ذاته، المملوك من الدولة، يمتلك اليوم"بنك القاهرة"المعروض للمزاد العالمي. ولكن اعتماد الخطاب نفسه لا يستقيم اليوم. فالزمن ليس زمن الاستعمار البريطاني، ولا هو زمن الرمز المصري الكبير طلعت حرب. أضف أن الاقتصاد العالمي تسوده في وقتنا الحاضر قواعد وشرائع تختلف كثيراً عن التي كانت سائدة مطلع القرن العشرين. إن مصر اليوم دولة مستقلة، وتقرير سياساتها الاقتصادية ملك سلطاتها الوطنية. كما أن النشاط المصرفي يخضع للقانون المصري وسلطة المصرف المركزي المصري، الذي يستطيع، بما تملكه مؤسّسات الإصدار من سلطات واسعة، أن يفرض على المصارف، أياً كان مالكها، لتخصّص القسط الأكبر من الادخارات الوطنية لخدمة الاقتصاد الوطني. ثم إن إقفال الحدود أمام رأس المال الأجنبي هو دعوة أكثر ضعفاً مما كانت عليه قبل قرن، لأن القاعدة في وقتنا الحاضر هي حرّية انتقال رؤوس الأموال والاستثمارات بين الأمم، ورؤوس الأموال العربية، مثلاً، تستوطن الأسواق العالمية من دون اعتراض. ثم إن معظم مشاكل القطاع المصرفي المصري، التي تجرى معالجتها منذ سنوات، نجمت عن استعمال"الوطنية الاقتصادية"إلى حدّها الأقصى، عن طريق تملك الدول المصارف المصرية عبر التأميم. فشلت الدولة في إدارة القطاع المصرفي، في مصر وفي غير مصر. فعندما بدأ تحرير المصارف في مصر، والسماح لرؤوس الأموال الخاصّة بتملك المصارف، نشأ قطاعان متجاوران: المصارف العامّة والمصارف الخاصّة. وكشف هذا التجاور مكامن الضعف والفشل في مصارف الدولة ، بالمعايير العامّة، وبالمقارنة بالمصارف المصرية الخاصّة. لقد تميّزت المصارف العامّة بأنها ذات ملاءة منخفضة وسيولة ضعيفة وربحية تقل كثيراً عن ربحية مصارف القطاع الخاص. كما تميّزت بتخلف إداراتها ورداءة نسبة كبيرة من موجوداتها، حيث ترتفع فيها نسبة الديون المشكوك بتحصيلها. ويعود ذلك إلى سبب بديهي، وهو سيطرة الحكومة والنفوذ السياسي على القرار الائتماني، ما يوجّه التسليف نحو مؤسّسات القطاع العام غير الناجحة، وزبائن القطاع الخاص من ذوي الحظوة والمقربين من أصحاب النفوذ. ووصلت نسبة التسليفات المشكوك فيها مطلع التسعينات إلى 30 في المئة من إجمالي التسليفات في بنوك مصر، علماً أن النُظم لم تكن تفرض تصنيف القروض للمؤسّسات العامّة لأنها مكفولة من الدولة. الروح الوطنية في الاقتصاد هي روح سامية، لكن استعمال الشعار الوطني في غير محله قد يقود إلى عكس المبتغى، فيتكبد المجتمع جراءه أفدح الأضرار. ولعل مصلحة الاقتصاد المصري الأولى، في الموضوع المصرفي، ليست في سدّ الأبواب أمام الاستثمارات الخارجية، بل في استقبال هذه الاستثمارات وتشجيعها، على أن توجّه بطريقة تساعد في توليد النموّ وتوزيع التنمية، في شكل يخدم التطوّر الاجتماعي وإزالة الفوارق الهائلة بين المناطق والطبقات. * خبير مالي لبناني