تتعيّن الرواية، كما يقول البعض، جنساً أدبياً ديموقراطياً ، يرى وراء الواقع المعيش واقعاً آخر، ويرى الواقع المعيش متبدّلاً متحوّلاً، قابلاً للاستبدال بآخر يتهيّأ للوصول. بل انّ الروائي الديموقراطي يعلّم شخصياته ويتعلّم منها، يضع على لسانها كلاماً أراده وتلقّنه كلاماً مغايراً حين تشاء. لا غرابة ألا تزدهر الرواية في البلاد التي تُعلّم أهلَها أحاديةَ المحاكمة وتربيّهم على المعايير القاطعة. يبرهن البعض على الديموقراطية الروائية عائداً إلى"دون كيشوت"، النص الروائي المؤسسة الذي حاورته الرواية الأوروبية بأشكال مختلفة. فقد أقام سيرفنتس عمله على مفهوم الاختلاف، استولد فارساً رومانسياً ملامحه شديدة الوضوح، فهو الطويل الأعجف المتكئ على رمحه، ووضع مقابله تابعاً قصير القامة لا تنقصه السمنة، كما لو كان تباين هيئة الطرفين يزيدهما وضوحاً. والتباين هو الطريق المستقيم إلى التعرّف على اختلاف الفارس عن تابعه، وهو منظور يرى وجود البشر في اختلاف البشر. لا تختلف الفلسفة السياسية عند مكيافيللي عن الفلسفة الروائية عند سيرفنتس، فالأولى تقيس الأمير الفاضل بالأمراء الأفاضل الذين يتركهم، والثانية تحكم على الرواية الديموقراطية بالروايات المبدعة التي تنتسب إليها. كتاب"مصارعة طواحين الهواء"- لقاءات مع دون كيشوت - للباحثين مانويل دوران وفاي ر. روج. مطبوعات جامعة ييل - 2006 أثنى عليه الناقد الأميركي هارولد بلوم. وسواء أثارت مقدّمة الكتاب، وهي كثيفة لامعة غنية بالإيحاء، الاهتمام أم لم تثره إلاّ بقدر، فإنّ جديد الكتاب الأساسي يقوم على تقصّي الآثار التي تركتها رواية دون كيشوت على جمع من كبار الروائيين اللاحقين. فهذه الدراسة تقرأ العلاقة بين دون كيشوت ورواية فولتير: كانديد، الرواية الساخرة التي أدرجها إميل حبيبي بشكل مبدع في روايته:"المتشائل"، وتتوقف أمام نص سيرفنتس ورواية ستاندال"الأحمر والأسود"، حيث أطياف نابليون تحوّم فوق البطل الطموح"جوليان سوريل"، وأطياف دون كيشوت تحوّم فوق الطموح المهزوم ومعبوده الفرنسي، الذي هزم في معركة واترلو. ففي صلابة الواقع الخارجي الماكر ما يصرع الأمبراطور الحسوب والفارس الناحل الذي فقد الذاكرة والشاب الوصولي، الذي يريد ظلاًَ أطول. بعد ستاندال، يأتي غوستاف فلوبير ومقارنة بين الفارس المخذول وپ"مدام بوفاري"، التي هي فارس خائب آخر، في شكل امرأة، أرادت حياة حرّة موسرة، وانتهت إلى اليأس والانتحار. تمرّدت على أعراف مجتمعها، مثلما تمرّد دون كيشوت على وقائع زمانه، ظفر الثاني بموت هادئ حزين، وعاشت الأولى احتضاراً قاسياً. كان الطرفان المنكوبان أدمنا قراءة الحكايات الحالمة، الأنثى ذهبت إلى قصص الغرام، والفارس الواهم أشبع خياله بروايات الفروسية. قرأ فلوبير رواية الفروسية الشهيرة وهو في الحادية عشرة من عمره، حين كان يحاول كتابة حكايات متخيّلة. أمّا العلاقة بين رواية سيرفنتس ورواية بروست"البحث عن الزمن المفقود"فيلمسها المؤلفان في موضوع تبدّد الأوهام والاصطدام بواقع بذيء لا يعد بشيء. بعد مراعي السماء المزهرة تأتي دروب الخراب المحمولة على زمن قاسٍ ينذر بالانطفاء. أقام بروست حواراً بين مستويات مختلفة من الذاكرة متقدّماً، بشكل بطيء، من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر المتبقي إلى شيء قريب من النهاية، مسائلاً عبث الماضي ورخاوة الزمن الفادحة. فكل الاحلام والذكريات والآمال والعلاقات الإنسانية صورة أخرى عن المآل الذي انتهى إليه الفارس الشارد، الذي فتنته معارك مع خصوم جسام، لا وجود لهم. الحلم الذي يتكشّف وهْماً، والوهم الذي يستدعي نهاية غير مرغوبة، والنهاية التي تعبّر عن هشاشة الإنسان وعبث الوجود. هذه الفكرة التي تتغلغل في رواية دون كيشوت لها حضور واسع في عمل تولستوي"الحرب والسلم"، التي هي أعظم رواية تاريخية كتبت حتّى اليوم. فالأمير أندريه، الذي بدّد ثروته الموروثة بشكل عبثي، مثقف رومانسي مسكون بأحلام نابوليونية، يضع خططاً لإصلاح الجيش الروسي، آملاً بتغيير مصائر البشر. لكن ما حلم به يسقط معه في أرض المعركة، غير بعيد عن مصير زميله بيير بيجيكوف، الذي أراد تغيير العالم وانتهى إلى حياة مريحة أقرب إلى البلادة. سخر تولستوي من البشر على طريقته، فأقصى فكرة التاريخ كما يكتبها المؤرخون، وعبث بأبطاله كما يشاء، مبتعداً عن فكرة النصر والهزيمة البسيطة. في أواخر أيامه هجر تولستوي زوجته وبيته الريفي المريح، ومات في الطريق، أو في مكان عام يعج ببسطاء البشر، واضعاً الألقاب جانباً ومحتفظاً بفتنة العبث، التي لا تعرفها الأرواح الصغيرة. حمل الفصل السابع من الكتاب العنوان:"دون كيشوت والعالم الجديد - توقّعان أميركيان"والاسم الروائي المتوقع في هذا المجال قبل غيره هو هرمان ملفل صاحب"موبي ديك"، والشخصية الروائية المتوقعة أولاً هي: القبطان"آخاب"، ذلك البطل المعطوب الذي كرّس حياته لمطاردة"حوت أبيض"، مثلما كرّس حياته الفارس التائه لمطاردة فرسان لا وجود لهم. يذكر مؤلفا الكتاب أنّ ملفل قرأ رواية سيرفنتس بدقة عالية، فنسخته التي خلّفها وراءه مملوءة بالخطوط والملاحظات والأحكام التي سجّلها بقلم رصاص، وهو يذكر في يومياته المبدع الإسباني باحترام كبير، ويتحدّث عمّا يدين به الأدباء إليه. يشمل"الديْن"بداهة ملفل ذاته، الذي صاغ بطلاً يقترب من دون كيشوت ويبتعد عنه في آن. يخترق البطلين مسٌّ من الجنون، بطريقتين مختلفتين، فالفارس مجنون بطريقة بليدة، يصلح كل خطأ يرتكبه بخطأ آخر يبعث على الضحك، بل انّ القارئ لا يتوقع منه إلاّ ما يخالف الأليف ويعبث بالقاعدة. أما البحار العصابي المتجّهم فله جنون آخر، يبعث الخوف وينذر بالشر ذاهباً في النهاية إلى موته المنتظر. جنون الأول مسالم، يضحك الآخرين ولا يجرّهم إلى الهاوية، خلافاً لجنون مستطير يريد أن"يؤدّب الطبيعة"وأن يصنع جنساً من البشر يتصرّف بالطبيعة ولا يعترف بقوانينها. رأى الفارس والبحار مثالاً عالياً، بذلك الإحساس الأليم بالصمت والعزلة، وبحثا عن كلام مختلف، وصل إليه أحدهما بوسائل كلامية، وعالجه الآخر بوسائل القتل والدمار والدمار الذاتي. قرأ ملفل دون كيشوت وأراد بطلاً واضحاً، مستأنساً بما كتبه توماس كارليل عن الأبطال، وعاد وعبث ببطله وصرعه في عرض البحر، ساخراً في نهاية المطاف من زيف البطولة المتغطرسة. جسّد ملفل معنى البطولة في الإبداع الروائي، مثلما واجه بروست رخاوة الزمن بديمومة الكتابة المبدعة. لم يقارن كتاب"مصارعة طواحين الهواء"بين كتاب سيرفنتس والروائيين المشار إليهم فقط، بل عالج الرواية الأوروبية كلها، من تشارلز ديكنز إلى دانييل ديفو، ومن ديدرو إلى بوشكين، ومن الأخير إلى مارك توين ووالتر سكوت،... انطوى هذا الكتاب النقدي على بعدين لامعين: معرفة واسعة بتاريخ الرواية الأوروبية والأميركية، تبرهن أنّ النظرية النقدية الأدبية لا معنى لها خارج معرفة حقيقية بالتاريخ الأدبي، وبصيرة ذاتية ثاقبة مؤسسة على ثقافة نظرية راسخة. ليس النقد الروائي، في الحالين، تلخيصاً للروايات وتبسيطاً لمضامينها، بل هو قراءة كل رواية برواية أخرى، وقراءة الروايات جميعاً بثقافة نظرية تأتي من خارج الروايات. يطرح كتاب"مصارعة طواحين الهواء"على القارئ السؤال التالي: هل هناك شجرة أدبية بصيغة المفرد، أم أن شجرة الأدب هي جملة المحاولات الإبداعية التي أعادت غرس وتشذيب وتنسيق شجرة أولى مبدعة بشكل مختلف؟ يحمل السؤال جوابه، ذلك أنّ أهمية رواية دون كيشوت تأتي من تشجّرها في جملة روايات كبيرة، وإلاّ لكانت عملاً عقيماً، على رغم الفضائل الكثيرة المنسوبة إليها. تعود مرّة أخرى جملة مكيافيللي عن الأمير الفاضل الذي يبرهن عن فضيلته الحقيقية في الأمراء الأفاضل الذين خلّفهم. وقد نسأل مباشرة: هل هناك نص أصل تحاكيه لاحقاً نصوص تابعة؟ تأتي الإجابة بالنفي، ذلك أنّ دون كيشوت، كما تبرهن دراسات مستفيضة، تضمن نصوصاً كثيرة متنوعة سابقة عليه، كما أنّ الأعمال الروائية الكبيرة اللاحقة لم تكتفِ بمحاكاته، بل حاورته بشكل جديد، وإلاّ لما عرف القرّاء: مدام بوفاري، الحرب والسلم، موبي ديك، والبحث عن الزمن المفقود? السؤال الأخير ما هو العمل الأدبي الديموقراطي؟: إنّه العمل الذي حاور أعمالاً كثيرة قبله وانتهى إلى بنية خاصة به تحاورها أعمال لاحقة ترفض الانغلاق. لا شيء، في الأدب، يُعطى كاملاً، لا الفكرة ولا التقنية ولا مطالع الكلام. لو حصل هذا لانتهى الأدب.