على نار هادئة، ومن دون ضجيج، تقوم المفوّضية الأوروبية في لبنان بمبادرة شديدة الأهمّية، يمكن أن ترتب نتائج بعيدة المدى على السياسات الاقتصادية في لبنان. هي بدأت برعاية حوار اقتصادي مستمرّ بين الأطراف السياسية، وتسعى، في غمرة هذا الحوار، إلى إدخال مفاهيم جديدة أهملها الفكر الاقتصادي السائد، وتجاهلتها برامج الإصلاح وأوراق العمل، منذ أن بدأ لبنان معالجة مشاكل ما بعد الحرب. والحوار الاقتصادي بين القوى اللبنانية، في ذاته، خطوة مهمّة وجديدة. فمنذ اندلاع الصراع المسلح في البلاد، قبل ثلاثة عقود ونيّف، شهد لبنان عشرات المبادرات للحوار السياسي، في الداخل وفي الخارج، كان آخرها اجتماع ممثلي القادة اللبنانيين في لا سيل سان كلو جنوبباريس، بمبادرة من الحكومة الفرنسية. لكن الشأن الاقتصادي لم يحظ مرّة واحدة بفرصة للحوار اللبناني - اللبناني، رغم أن الفترة شهدت، بمواجهة الحروب والأزمات، تدميراً للقطاعات الاقتصادية والبنية التحتية، وتدهوراً في معدّلات النموّ، وانخفاضاً دراماتيكياً في الدخل الفردي، وانفجاراً للتضخم، وتدهوراً غير مسبوق لسعر صرف الليرة اللبنانية، إضافة إلى تضخم الدين العام الذي بلغ ضعفي الناتج المحلي. هذه التطوّرات على أهمّيتها، بقيت غريبة عن أجندات القوى السياسية اللبنانية الى أن جاءت المبادرة بعد أكثر من ثلاثين عاماً على يد السفير باتريك لوران، رئيس بعثة المفوضية الأوروبيّة في لبنان. تستند مبادرة الحوار إلى أن التفاهم بين اللبنانيين على المسألة الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن يكون قاعدة متينة لتفاهم سياسي في ما بينهم، وفي ذلك استفادة من جوهر التجربة الأوروبية، التي انطلقت من تفاهمات اقتصادية لتصل إلى وحدة سياسية. إضافة إلى أهمّية الحوار الاقتصادي في ذاته، لافت أن الراعي الأوروبي لهذا الحوار يسعى إلى إدخال أفكار جديدة وعميقة، أهملها الفكر الإصلاحي الاقتصادي في لبنان. فرغم التوسّع النسبي في الأبعاد الاجتماعية والتنموية لورقة الحكومة اللبنانية إلى مؤتمر باريس -3، سيطر همّ أساسي شبه وحيد على كل البرامج الحكومية اللبنانية للإصلاح الاقتصادي، هو همّ المالية العامّة المتدهورة وتبعاتها. إن محدودية الخيال الإصلاحي الرسمي لا تعود فقط إلى سيطرة الهمّ الآني على الرؤيا البعيدة المدى، بل هو أيضاً سليل الفكر الليبرالي اللبناني الذي رغب دائماً في التزام الدولة زاوية محدّدة من النشاط الاقتصادي وعدم الخروج منها. ولولا التجربة الشهابية القصيرة المدى لكان تاريخ الفكر الاقتصادي اللبناني الرسمي تاريخاً ليبرالياً صافياً. على نقيض هذه الروح، طرح الحوار الاقتصادي في المفوّضية الأوروبية آفاقاً جديدة للإصلاح، فتحدث عن"رؤية عامّة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية"تركز في شكل متساو على النموّ الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وتنمية المناطق، مقابل تركيز البرامج الإصلاحية على النموّ وحده، من دون اعتبار كبير لمضمونه وتركزه، في مناطق محدّدة وفئات محظوظة من السكان. وأعاد الحوار الاعتبار لمفهوم التنمية المستدامة، الذي حظي، في العقد المنصرم، باهتمام كبير في المنتديات الدولية واهتمام متواضع في الخطاب الاقتصادي اللبناني. ومن الدلائل الواضحة على هذا التوجّه التنموي والاجتماعي، تركيز الحوار على الزراعة، صاحبة الدور الرئيسي في تحسين الأوضاع المعيشية لأبناء الريف. منذ منتصف القرن الماضي يتدهور القطاع الزراعي في لبنان بشكل عمودي، ويرافقه تدمير للريف، وتشريد لأبنائه وجعلهم ملحقين بالمدن واقتصاداتها، وكان ذلك مصدر تدهور المعيشة لمئات الآلاف من اللبنانيين. انحدرت حصّة الزراعة من الناتج المحلي من 20 في المئة إلى 14 في المئة في الخمسينات وحدها، أي خلال عقد. وفي فترة الحرب الأهلية 1975-1990 كان الريف من أبرز ضحايا الصراع، فتقلصت المساحات المزروعة إلى النصف وهبطت نسبة السكان العاملين في الزراعة من 17 في المئة إلى 12 في المئة. وفي فترة ما بعد الحرب، واجهت الزراعة ظروفاً أصعب، بدل معالجة مشاكلها، نتيجة السياسات النقدية والمالية غير الملائمة، وإهمال خطط إعادة الإعمار لهذا القطاع، ناهيك عن تشريع أبواب البلاد لمنافسة غير متكافئة مع الإنتاج الزراعي للبلدان العربية المجاورة. ويمكن تصوّر التدهور في أوضاع سكان الريف الذي رافق هذه التطوّرات. إن طرح هذه الهموم الاجتماعية والإنسانية في الحوار الاقتصادي القائم برعاية أوروبية هو مسألة بالغة الحيوية، يتعطش لها الفكر الاقتصادي اللبناني، لا سيما الفكر المؤثر في السياسات الحكومية. لكن ذلك يطرح إشكالية سياسية أكثر منها اقتصادية، فإنه يرسم مسافة بين الهموم البعيدة المدى للحوار الجاري وبين الهموم القصيرة المدى للدولة. وهذا أمر لا يريده المسؤولون الأوروبيون، لأنهم يدعمون الحكومة القائمة وخططها السياسية، بل خطتها الاقتصادية أيضاً، إذ كانت أوروبا أهمّ الداعمين للبرنامج الذي قدّمته الحكومة إلى مؤتمر باريس -3. فهل تجد حنكة رئيس البعثة الأوروبية في بيروت حلاً ديبلوماسياً لهذا التناقض؟ من الأفضل ألا نعتمد على ذكاء السفير باتريك لوران وكفاءته الديبلوماسية فحسب، بل أن تبدي الحكومة انفتاحاً على الحوار القائم وعلى هذه الأفكار الجديدة، لأنها لا تضرب البرنامج الاقتصادي لحكومة لبنان، بل توفر تصوّرات لمعالجة مشاكل أكثر عمقاً من تلك التي تركز الأوراق الحكومية عليها. خصوصاً، أن المبادرة الأوروبية تسعى إلى توفير إجماع وطني حول طرق حل مشاكل لبنان الاقتصادية، وهو إجماع يفتقده لبنان ولو بالحدّ الأدنى وسط الضجيج الصاخب للصراع السياسي. * خبير مالي لبناني