"عن الرموز والآثار: مذكرات مسافر" كتاب جميل كتبه ليلى بساط بمهارة وخبرة ومعرفة وشغف، لكونها تعشق السفر الذي يبدو لديها مغامرة مفتوحة أمام المجهول. فالأمكنة ليست سوى قراءات غنية للعالم والمغامرة والدهشة. تأخذنا ليلى بساط على"بساط الريح"أو سجادتها السحرية وتروي لنا التفاصيل والمشاهدات والمعاينات والانطباعات الإنسانية عن الجغرافيا المتعددة في أسفارها الى بورما وأوزبكستان وحلب والقدسوأثيوبيا والصحراء المصرية وأخيراً المغرب. هنا السفر عبور الى الأمكنة بمهارة السائحة المثقفة التي تريد أن تضع أمامنا الأشياء في جمالياتها وعراقتها وأبعادها. ترافقنا الى اكتشاف تلك الأمكنة الغنية بثقافاتها وتحولاتها المتناقضة والمتراكمة. في مستهل كتابها الغني تقتبس ليلى بساط من الكاتب الأميركي بول باولز قوله:"إذا كان الناس في طرائق عيشهم يتشابهون في كل مكان، فما من هدف للانتقال من مكان الى آخر". لكنّ ليلى بساط تكتشف في سفرها ما هو أبعد من ذلك. ففي كل زيارة لبلد هناك درس وعبرة ومغزى معين تتعلمها كلها. ففي بورما"تعلمت درساً في الإصرار التام على إيمان المرء وعلى التخلي الكامل عن الأمور والحاجات المادية". وفي أوزبكستان اكتشفت ليلى ما قصده الرواقيون في البقاء على قيد الحياة فقط من خلال الحاجات الضرورية اللازمة. وفي مدينة حلب كانت تعود الى الأساسيات والى تقدير الملذات والمتع البسيطة للحياة. وفي القدس تعلمت ليلى بساط درساً قوياً وساطعاً هو كيف يعيش المرء في ظل قوانين جائرة وأحكام عسكرية غير عادلة وفي جو من الرفض تام. أما أثيوبيا، تقول بساط"فحفرت في قلبي معنى التعاطف والتراحم. وشعرت بالأسى العميق للبؤس الذي يتخطى الكرامة الإنسانية. أثيوبيا الموزاييك الحي للشعوب واللغات والأديان والثقافات". وتبقى السجادة السحرية طائرة حتى تصل الى الصحراء المصرية، تلك الصحراء المهابة التي مثلت لها العدم والوحشة ممزوجتين بالفكاهة المصرية مهما كانت الصعاب وقساوة الأشياء. ونعرف من الجمل والعبارات مبلغ التأثير للصحراء في النفس البشرية:"الماء يغسل الجسد والصحراء تغسل الروح"، أو"من يكتشف الصحراء لن يعيش من دون حكمتها أبداً". وأخيراً، المغرب بلاد الأبواب المقفلة والقلوب المفتوحة. وتقرأ المدن المغربية برموزها الثقافية والتاريخية: الدار البيضاء، فاس، مكناس، رباط، مراكش، طنجة... ولكن يظل السفر متعة عشاق الحياة. وتعترف ليلى بأن كتابها - مذكرات مسافر - ليس دليلاً دقيقاً ولا درساً في التاريخ. بل هو رغبة في مشاركة الآخرين جمال اللحظات التي لا تنسى ولا تلك الأمكنة الخلابة. الكتاب، في معنى ما، دعوة مفتوحة لكل القراء الى دخول باب الدهشة في تلك الأماكن المميزة، ومحاولة لتفسير أو فهم أسرار الثقافات والحضارات. تتحدث ليلى بساط عن صدمتها الحضارية الأولى التي حصلت في بورما:"بكل بساطة، أن تكون بورمياً يعني أن تكون بودياً". وفي كل مكان يصل إليه بودا كانت تبنى له المعابد تمجيداً وتكريماً لأعماله. تنقل ليلى بساط مشاهداتها الثاقبة وتصف الناس والبشر وكيف يتعايشون بعضهم مع بعض، وكيف وضع الذهب والأحجار الكريمة في المعابد. وتعجب للناس اللطفاء الذين ينظرون الى الغنى والثراء نظرة استغناء على رغم فقرهم وظروفهم الصعبة. والمغامرة لا تتوقف فثمة في مدينة حلب أسرار جديدة تظهرها لزوارها الفضوليين. وحلب لديها دائماً شيء تقوله. ولطالما لعبت دوراً في ترسيخ العلاقات بين الثقافات المتنوعة والمدنيات المختلفة. انها مدينة العيش المشترك بين الإسلام والمسيحية. ولكن يبقى أن الرحلة الخاصة والمميزة كانت رحلتها الى القدس، الأرض الممنوعة، أرض عائلة والدها. وتلفت ليلى بساط انتباهنا الى ما يجري في ما تبقى من فلسطين، وهو وضع لا يحتمل. فالعالم يغض النظر عما يجري لجهة تغيير الديموغرافيا والمعالم، وممارسة الظلم على"المقدسيين"والتقليل من ثقتهم في المقاومة والبقاء. وتصف الكاتبة مدينة القدس كما اكتشفتها بحق"مدينة التنوع والاختلاف حيث الحضارات والمدنيات التي ظهرت ثم سقطت على أعتابها". وكذلك تم التنازع عليها طويلاً ولكنها لا تنتمي الى أي منها. وتمضي الرحلة على بساط الريح الى مدينة الإسكندرية... مدينة الأشباح، حيث عند كل مفترق يُحيّي الماضي زواره. الإسكندرية هي تلك البوتقة التي اختبرت العولمة ألفي سنة قبل الميلاد. وأخيراً، تصل الكاتبة الى محطتها الأخيرة المغرب حيث شعرت بتلك الوحدة القوية التي تربط الشعب المغربي، وشعوره بالفخر العظيم بمملكته، وكذلك الاحترام العظيم للتراث الغني الذي ينمو بالحب في ثقافة تقوم على الحوار. كتاب"عن الرموز والآثار"كتاب استثنائي ومشغول فنياً في نطاق أدب السفر والرحلات. وليلى بساط، العضو في متحف الجامعة الأميركية في بيروت، تورطنا وبمهنية عالية في حديث السفر الجميل ومدن الروح والتفاصيل اليومية والمغامرات الخطرة والممتعة خلال الأسفار. وما تجب الإشارة إليه ختاماً هو الصيغة الفنية التي تميّز بها الكتاب، إخراجاً وصوراً ورسوماً. فإذا هو بذاته رحلة جميلة تخطها العين واليد. وقد تشاركت في إخراج الكتاب ليلى مصفي عوّاد مديرة فنية ولارا قبطان تصوير ورسوم إضافة الى مؤسسة TAKE TWO تصميماً وإنتاجاً.