الشحنة الانفعالية التي انبجست بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، وما ولدَّته من شظايا أفعال على الصعيد الدولي سبقتها وأعقبتها وصاحبتها شعارات وحملات اعلامية أحدثت ثورة مفاهيمية اختلطت فيها السياسية بالثقافة والدين، ما جعل قضية المفاهيم قضية مركزية تجب مساءلتها واستثارة مكنوناتها، وكيف يمكن - على صعيد الفعل السياسي - للألفاظ أن تكيف لتستوعب المصالح وتغيراتها، وكيف أمكن استثارة أبعاد دينية للأحداث، ذلك ما دفع الأستاذ معتز الخطيب الى كتابة مؤلف باسم الغضب الإسلامي... تفكيك العنف - دار الفكر، دمشق 2007 يسبر فيه أغوار تلك المفاهيم والمصطلحات، ثم الدوافع لدى مروجيها ومدى توظيفهم لها في خدمة أهداف وغايات معينة. الفكر لا يتولد في تجدداته وتعدلاته وتغيراته إلا باتصاله بواقع معيش، وبنظر الى أوضاع هذا الواقع المعيش، واتخاذ موقف اختياري منه، فلا يوجد فكر يجد ويطرأ إلا ويكون متأثراً بواقع ما جدّ فيه وما طرأ، كما أنه لا وجود لفكر ينتشر وتتشكل به حركات سياسية أو اجتماعية الا ويكون هذا الانتشار ذاته تعبيراً عن ظاهرة حاضرة، فثمة ظاهرة وحاصلة، وثمة تعبير فكري عنها نتج من التقاء فكر ما بواقع ما وعن تفاعلهما معاً، تلك النتائج عرضها المفكر طارق البشري في تقديمه لكتاب الخطيب، ويضيف الى ما سبق أن كل مجتمع بتعامله مع أوضاعه انما يتعاطى من مخزونه الثقافي ويصوغ حركته وأفعاله وردود فعله، ويصوغ تعبيره عن ذلك من رصيده الفكري العام، أياً كان حكمنا على تعبيره الفكري بالصحة أو الخطأ، فالمؤرخون لاحظوا مثلاً أن الألمان عادوا الى التاريخ الروماني وهم يبنون موقفهم من بناء الدولة القوية وينقبون عن السوابق التاريخية، وبالمثل ظهرت الفاشية في ايطاليا في عشرينات القرن العشرين من خلال بعث الأمجاد الرومانية، كما ان السياسة الاستبدادية والعدوانية للولايات المتحدة الأميركية كانت تتلمس تعبيرات لها من الرصيد الليبرالي الحر، في كل هذه الحالات نلحظ ان التيارات والجماعات في تلك البلاد استدعت مخزوناً ثقافياً كان مناسباً للتعبير عنها، وصاغته بما ينسجم مع موقفها الحياتي الراهن. بهذه النظرة يتحتم علينا البحث في فكر الحركات الإسلامية، وخصوصاً منها التي اتخذت العنف سبيلاً لها، لنرى ونفهم المرجعية الفكرية لها، وما هو وارد من رؤيتها للواقع المعاش، وتجاهل تلك الرؤية هو الخطأ الذي وقع فيه معظم المفكرين الذين تصدوا لدراسة فكر هؤلاء بمعيار شبه وحيد يتعلق بالصواب والخطأ الفكري في اسناد تأويلات هذه الحركات للمصادر الإسلامية والى التراث الفقهي، من دون اهتمام بما يبين من وجهة نظرها في رؤيتها للواقع الذي عاشته أو تعيشه اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً ودينياً، فإننا حين نحيل تشخيص الأزمة الى أزمة فكرية فقهية على مستوى الإسلام، فإن هذا الإرث الفقهي متاح لجميع المسلمين، فلماذا يثمر لدى فئة محدودة من دون جميعهم، ولماذا يثمر في بلادٍ دون أخرى؟ كما أننا قد نتساءل لماذا هذا التيار أو هذا الفقه العملي المتشخص لم يظهر أفعالاً من قبل؟ فهناك ظروف وعوامل أدت الى ايجاد بيئة ملائمة ومواتية لاستثمار وفهم وانتاج فقه العنف من أجزاء مبعثرة من الإرث الفقهي الكلاسيكي ? بحسب تعبير معتز الخطيب ? وبعض الاجتهادات المعاصرة، وتبني خيارات واقصاء أخرى موازية لها، وتخللت عملية الانتاج تلك فجوات فكرية ومفهومية ومنهجية أثناء عملية البناء والتركيب المستندة الى القرآن الكريم والسنّة والتراث الفقهي، حيث يستمد منها بعض مقولاته وأدلته التي توفر له الشرعية الدينية وتصله بلحظته الطهورية المنشودة، وتمده بالطاقة الرمزية التي تدفعه باتجاه طلب"الشهادة"في مثل تلك الأفعال الانتحارية وتقحم تلك المخاطرات. ولقد أجمل الكاتب الأسباب في توقيت ظهور العنف المسلح حديثاً ? أثناء محاولته تفسير ظاهرة العنف ? بثلاثة عناصر: أولاً: محاولة التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي بقيت حتى الآن قاصرة وعاجزة. ثانياً: السخط على الحكومات المسؤولة عن تعثر مشاريع التنمية، وعن حرمان الشعب من المشاركة في القرارات السياسية المهمة. والخضوع لهذه الحكومات الفاشلة يمثل عبئاً ثقيلاً. ثالثاً: النظام العالمي الظالم، فالقوى الغربية لا تسعى إلا الى تحقيق مصالحها الأنانية، لو كانت على حساب دعم الأنظمة الإسلامية الديكتاتورية. فتفسير الظاهرة يكمن في تحليل مركب، على مستوى الفكر الإسلامي، وفي سياق تفاعله مع التحولات العالمية، ومن التبسيط المخل قصرها على مجرد فئة ضالة انحرفت، أو ظاهرة اسلامية ايديولوجية مع تجاهل حركة العالم، والنظام السياسي الداخلي وتفاعلاته أيضاً، بمعنى أن العنف المسلح هذا انما ظهر في ظل الدولة القطرية، وعلاقتها بالداخل المجتمعي وبالخارج الغربي، وموقفها من الدين حركته ودوره في حياة المجتمع وسلوكياته تجاه أهدافه العليا. وهكذا تتم قراءة نشوء مفهوم الجهاد ضد الداخل أولاً، ثم تحول الاستراتيجية الى الجهاد ضد العالم تحت عنوان"الجهاد ضد الصليبيين واليهود"لاحقاً. وفي الطرف المقابل عند تتبع تلك المفاهيم والمصطلحات على ألسنة الساسة الأميركيين ومن خلفهم الصحافة والإعلام الغربي، نرى مدى تسييس وتسويق الصور والرؤى التي تسعى الى تهيئة الرأي العام لتقبل أكثر الممارسات تطرفاً من خلال الاستثمار السياسي والايديولوجي لأفكار ومفاهيم تحظى بالجاذبية بتحويلها الى شعارات لتلك الممارسات التي هي أبعد ما تكون عنها، لأن الآلة الإعلامية تفعل فعلها في اعادة تشكيل المفاهيم لحسابات خاصة، وفي هذا السياق نفهم إصرار الولاياتالمتحدة على عدم وضع تعريف وضوابط واضحة لتحديد مفهوم الإرهاب، وذلك لإخضاعه للحسابات السياسية ومصالح الطرف الأقوى في المعادلة الدولية، الذي يصوغ المفاهيم والتعريفات والرؤى بحسب بوصلة مصالحه الأمنية والاستراتيجية والقومية، بعيداً من أي اطار معياري وقيمي، فكلما ازداد المفهوم غموضاً أصبح أكثر عرضة للتطويع الانتهازي. في هذا الإطار يقول أوليفيه راو في كتابه أوهام 11 أيلول: المناظرة الاستراتيجية في مواجهة الإرهاب، دار الفارابي، بيروت 2003:"ان الأميركيين لا يريدون قصر مكافحة الارهاب على الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، فالأمر بالنسبة اليهم يتعلق بإطار عام للسياسة الدولية، وبرؤية شمولية لمشكلات الأمن، وبإعطاء تعريف للتهديد الإرهابي، لا يرتبط على نحو خاص بالإسلام، بل يكون قابلاً للتأقلم مع أي ترسيمة أخرى". * كاتب سوري