لن يثير العجب احتشاد جدران العاصمة الفرنسية بكل ما له علاقة بالجالية الأرمنية، فقد جعلت فرنسا سنة 2007"سنة الثقافة الأرمنية". يشكو البعض من أن الاهتمام بحملات رئاسة الجمهورية وسباقها الاعلامي شوش على كثافة الاحداث التي تمثلها تظاهرات الموسم بما تهيأ لها منذ سنوات. وذلك على رغم ما يحمله الفرنسيون من تعاطف مع التاريخ الدامعي للجالية الأرمنية، بل إن عدم اعتراف تركيا بالمذابح عطّل انضمامها نسبياً الى الاتحاد الأوروبي، أو على الأقل على المستوى الشعبي. لا تخلو هذه التظاهرات من إنعاش لذاكرة ضمير العالم تجاه المأساة التاريخية الأرمنية. مذابح الأرمن على يد العسكريين الأتراك بدأت باجتياح قراهم مع بداية الحرب العالمية الأولى ثم خلال عامي 1915 و 1917 قتل أكثر من نصف مليون ورحّل الملايين الى الدول المجاورة بخاصة العربية: سورية والعراق ومصر ولبنان اضافة الى ايرانوفرنسا والولايات المتحدة وبولونيا والهند. وعندما تأسست دولة أرمينيا الحالية عام 1920 برقعتها المتواضعة أصبحت جمهورية سوفياتية وذلك حتى عام 1991 حيث استقلت. أعطت هذه المأساة الشعب الأرمني بجالياته المتباعدة نوعاً من التحالف والعصبية الثقافية، والاتجاه الى الصنائع والمهن الحرة بدلاً من الوظائف. أصبحوا أطباء ومحامين، صناعاً فنيين ومستثمرين. يملكون قدرة على الاندماج في ثقافة الآخر. يعتبر اليوم شارل أزنافور مثلاً جزءاً أساسياً من ألوان الغناء الفرنسي. كذلك أمر كارايان والموسيقى الغربية الكلاسيكية، أما المصوّر أرشيل غوركي الذي قدم من أرمينيا الى نيويورك عام 1920 فيعتبر مؤسساً لخصائص"التعبيرية التجريدية"الأميركية ابتداءً من تأويله للسوريالية التجريدية الفرنسية متفوقاً على نظيره"ماسون". وبسبب أصالته وعمق ألوانه وعوالمه المستقاة من أدوات خصوبة العالم النباتي والحيواني لم يقدّر حق قدره حتى قرر الانتحار عام 1947. الجيل التالي سينهل من ميراثه الخصب، وسنجد له أكثر من موقع في تظاهرة الحداثة التشكيلية الأرمنية، أبرزها المعرض في متحف الفن المعاصر لمركز بومبيدو، يعانق عشرين لوحة نادرة تخرج للمرة الأولى من المتاحف الأميركية. أشدها شهرة لوحة"الاحتضار"التي سبقت انتحاره بأشهر عدة، تكشف أسلوبه الرؤيوي في استقلال الخط عن المساحة والتوليف الروحاني بينهما. لعل أبرز هذه المعارض التظاهرة الأثرية - الفنية التي هيأها معرض متحف اللوفر بعنوان أرمينيا المقدسة Armenia Sacra. يرصد ثلاثة آلاف سنة من الفن والعمارة الأرمنية، بخاصة الكنائس والأديرة التي تقع في أهداب"جبال آرارات"حيث اقتلعوا من جذورهم. تكشف الطرز المتأصلة في فنون المنطقة انتماء الى تقاليد الأيقونات الشرقية. كما يكشف معرض وثائق شراكة الأرمن في حرب التحرير الفرنسية عمق الصداقة الثقافية والتاريخية المعاصرة بين الشعبين. ساعد وجود الأرمن في المشرق العربي على تسارع نهضويتهم وانفتاحهم على أوروبا والخروج من عباءة ترهّل القرون العثمانية. وظلوا في حالة تعايش وتناغم مع ثقافة المنطقة، فهم في الأساس ليسوا بغريبين عنها. نعثر على هذه البصمات صريحة في نهضوية الثقافة الاسكندرانية، أما القاهرة فتحتفي بدايات السينما فيها بأشد ممثلات فرقة الريحاني أصالة الأرمنية:"ماري منيب"، ولا ينكر ما يملكه الفنان بول غيراغوسيان في المحترف اللبناني من مكانة وريادة. أرمني من فلسطينيي القدس، يحمل غربته المزدوجة الى طمأنينة لبنان، مشاركاً في متوسطية ألوانه ومقاماته الرهيفة ضمن الكوكبة التجريدية المعروفة. لعله من الجدير بالذكر أن بعض المصورين الأرمن في سورية نقل حساسية المعلم الأول في أرمينيا:"مارتيروس سارايان"مثل خليل عكاري، وبسبب هذا الالتحام الثقافي فقد شارك"معهد العالم العربي"في الاحتقالية بمعرض لعشرة مصورين ضوئيين أرمن يمثلون شهادة عدستهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بخصوص المظاهر الاجتماعية خلال الحكم العثماني. جزء من هذه الصور الفوتوغرافية استعير من مجموعة اللبناني بدر الحاج أحد أكبر المتخصصين والموثقين في هذا المجال. ليس بالصدفة أن معظم المصورين الفوتوغرافيين في المشرق العربي منذ تلك الفترة كانوا من الأرمن، وذلك لاهتمامهم المزدوج بالصناعة الفنية والحداثة، لكن معرض المعهد:"شرق الفوتوغرافيين الأرمن"يكشف تلك اللحمة الثقافية العميقة التي جمعت العرب والأرمن قبل وبعد محنتهم الكابوسية. هو غيض من فيض التظاهرة الثقافية التي عمت أرجاء المدن الفرنسية ومكتباتها ومراكزها الثقافية ومتاحفها الكبرى ومدرجاتها الموسيقية ما بين متحف اللوفر والأوبرا.