خسرنا الحرب في العراق. كان هذا عنوان موضوع في "لوس انجليس تايمز" ثم في "واشنطن بوست" هذا الشهر. والجريدتان من أرقى الجرائد الأميركية والعالمية. وقبلهما أصدر البنتاغون نفسه تقريراً عن سير الحرب من منتصف شباط فبراير حتى منتصف أيار مايو اعترف بالفشل على أكثر الجبهات، وعدم انخفاض العنف. تقرير وزارة الدفاع تحدث عن نقطة نجاح يتيمة هي انخفاض العنف الطائفي، فلم يصدر التقرير حتى كان هذا العنف يستأنف، وتعود حرب المساجد من سامراء إلى بغداد وغيرهما. الجريدتان النافذتان قالتا ما خلاصته إنه عندما يتلاشى التأييد الشعبي لحرب لا يعود، ولا توجد سابقة عن تغيير الرأي العام بعد معارضته حرباً. بل ان السوابق تظهر ان خسارة حرب تترك المجتمع مصاباً بمرض نفسي، وقد استمر مرض فيتنام عقوداً، ومرض العراق سيكون مثله الاتحاد السوفياتي ضربه مرض أفغانستان. وهما تضيفان انه ربما كانت حرب العراق أكبر خطأ استراتيجي في تاريخ الولاياتالمتحدة، لأن تأثير الفشل سيمتد إلى الدول المجاورة، في حين ان فيتنام لم تؤثر في الجوار، فلم تتحقق نظرية"الدومينو". والآن المسؤولون الذين فشلوا في إدارة الحرب يحاولون ان يقنعوا الأميركيين بوجود أخطار في مستقبل لم يحدث، ويحذرون من حرب إقليمية، ودويلة للقاعدة في الأنبار، بل من لعب الصين دوراً إقليمياً. الصحيفتان تريدان ان تنسحب القوات الأميركية من العراق، ووزارة الدفاع تعترف بالفشل بعد زيادة القوات، فما هو موقف إدارة بوش؟ مصادر الإدارة بدأت فجأة تتحدث عن وجود أميركي دائم في العراق، أول ما سمعت تلميحاً إليه كان من الناطق الرئاسي جون سنو الذي قارن ذلك بوجود 30 ألفاً إلى 40 ألف جندي أميركي في كوريا الجنوبية منذ عقود. ثم سمعنا وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، وهو معتدل، يتحدث عن وجود عسكري أميركي طويل الأمد، كما نقلت الصحف الأميركية تصريحات للقادة العسكريين الأميركيين في العراق عن الحاجة إلى وجود عسكري أميركي مستمر، وهذه المرة بحجة تدريب القوات العراقية. جون سنو أوضح ان الأميركيين في العراق بدعوة من الحكومة العراقية والذي وجه الدعوة يستطيع ان يسحبها. هذا الكلام باطل من أساسه، فالأميركيون غزوا العراق من دون تفويض دولي، وهم نصبوا حكومة تابعة لهم، وإدارة بوش تفترض ان كل حكومة عراقية ستدعو القوات الأميركية إلى البقاء خوفاً من حرب أهلية. ثم ان المقارنة مع كوريا مستحيلة، فالكوريون رحبوا بالأميركيين، أما العراقيون فقد عارضوا الوجود الأميركي في بلادهم. تستوي في ذلك المقاومة السنية والغالبية الشيعية. والوجود الأميركي يعطي القاعدة والإرهابيين الآخرين هدفاً دائماً لهم في العراق، ويجعل هذا الوجود مكتب تجنيد للإرهابيين والانتحاريين من حول العالم. الحقيقة هي ما يلي: الولاياتالمتحدة خسرت الحرب في العراق وقضي الأمر، والعراقيون اليوم ينحرون على مذبح كبرياء إدارة متغطرسة تجمع بين جهل الرئيس وتطرف نائبه وإجرام المحافظين الجدد. الإدارة تتحدث الآن عن وجود دائم مع ان الرئيس بوش كان وعد في البداية بأن الاحتلال سيكون قصيراً، وعلى نسق احتلال ألمانيا واليابان، فيضع العراق على طريق الديموقراطية، ويجعله نموذجاً للشرق الأوسط كله، ثم ينسحب. منذ تلك الأيام قتل حوالى مليون عراقي، ولا ديموقراطية، وقتل 3500 أميركي مع 25 ألف جريح، وكلفت الحرب 400 بليون دولار، مع نفقات شهرية الآن في حدود ستة إلى سبعة بلايين دولار ، ومع رقم نهائي خرافي لنفقات الحرب يتراوح بين 2.3 ترليون دولار و 4.3 ترليون دولار، وهو رقم يشمل العناية بالجنود المصابين بعاهات دائمة أو أمراض نفسية لعقود قادمة. الخسارة تشمل أيضاً الاعتداء على الحقوق المدنية للأميركيين بالتنصت على هواتفهم ومراقبة حساباتهم المصرفية من دون موافقة المحاكم كما يقتضي القانون، ومخالفة أسس الديموقراطية الأميركية بتعذيب المعتقلين والسجناء من خليج غوانتانامو إلى سجن أبو غريب وقاعدة باغرام. وقد سمعنا أخيراً ان جورج بوش ودونالد رامسفيلد كانا يعرفان شخصياً عن التعذيب في أبو غريب. غير ان هذه مشاكل أميركية للأميركيين، وأترك الإدارة تقلِّع شوكها بيدها، فما يهمني شخصياً هو العراق وشعبه. وأجد ان المزيج القاتل من الجهل والجريمة يمنع الإدارة من الاعتراف بخسارة الحرب، فتمضي في مضاعفة الخسارة، ويقتل كل يوم 30 عراقياً أو 50 أو 60، ومعهم بضعة جنود أميركيين، من دون أي أمل بحسم عسكري اليوم أو غداً أو بعد غد. إلى متى يستمر قتل العراقيين؟ كيف تحمي الولاياتالمتحدة مصالحها بقتل مئات ألوف الناس؟ كيف تتوقع ان يقبل العراقيون وجوداً عسكرياً دائماً في بلادهم؟ هل يأتي يوم يحال فيه أشرار الحرب على محكمة جرائم الحرب الدولية؟ هل يموت ديك تشيني المصاب بنوبات قلبية عدة قبل ذلك، أو يعيش ليقف في قفص الاتهام؟ أما لهذا الليل من آخر.