في المشهد الحالي تبدو الغرائز العليا او الدنيا لا فرق في انطلاق تام. واكبر الغرائز هذه اللحظة النزوع الى التدمير. في العراق، في فلسطين، في لبنان، او في جنوب السودان، ويتجلى العنف في صور شتى، لابساً لبوساً ايديولوجياً متنوعاً، ومعتمداً ذرائع وتسويغات لا حصر لها. تتواشج هذه الحروب، المصغّرة، المكبّرة، بموتيفات الوطنية، والدين، والمذهب، والشرعية السياسية، تتواشج في حروبنا المعلنة تواشجاً يصعب معه فكها. فالوطنية، مثلاً، التي تعني الانتماء الى جماعة محددة بحاضنة جغرافية الوطن، صارت اقنوماً للخير والشر، يرسم حدود دائرة الانتماء، لا على اساس حق الولادة، او حق التجنس اكتساب الجنسية بالعيش المشترك والمشاركة، بل على اساس الانتماء الى سلة معينة من المواقف والآراء. وكل خروج على سلة المواقف لا يعد خروجا على دائرة الاجماع السياسي، او على دائرة الانتماء للجماعة، بل خروج على الخير، والقانون، والعدالة الخ... وما يصح على الوطنية، يصح على الدين، وعلى المذهب او بالاحرى يصح على تأويلهما السياسي، لكن دائرة الانقسام هنا تقوم على اسس اخلاقية و/ او فقهية. وتُستمد من هذه الاقانيم معايير الشرعية الاخلاقية للقتل، التي يضاف اليها احياناً قواعد اخرى من الشرعية الحديثة: الفوز في الانتخابات مثلاً. المشكلة في هذا الضرب من التأويل لكل من"الوطنية"و"الدين"و"المذهب"و"الشرعية"انه يتحول الى اداة لنقض الأسس القانونية لوجود"الوطنية"و"الدين"و"المذهب"و"الشرعية"بمجرد اباحة الاقصاء الجسدي للمخالف. الواقع ان جل هذه الحروب الموضعية، على اختلاف الموتيفات الايديولوجية، هو صراع على مفهوم الدولة الحديثة. ما تزال"حضارتنا"عاجزة عن انتاج صيغة عقلانية لمفهوم الدولة. والصراع الحالي الدائر في منطقتنا هو بقضه وقضيضه صراع على السلطة، مهماز الدولة، سيان ان لبس هذا الصراع لبوس حمية وطنية، او مقاومة ثورية او نقاء اسلامي، او دفاع عن الطائفة. لا ادري ان كانت مصادفة ان مفهوم الدولة اشتق في حضارتنا من الفعل"دال"الذي يفيد معنى الانقلاب، والزوال، وتقلب الاحوال وانه اشتق عند غيرنا من معنى الاستقرار والسكون. لعلها مصادفة فيلولوجية لا اكثر. لكن المفارقة ان الممارسة الجارية تقترب من التطابق مع هذه المصادفة اللغوية. ما تزال الدولة عندنا مؤسسة شخصية للغاية، شأن كثرة من الاحزاب والحركات. وهي شخصية بمعنى انمحاء الحدود بين ما هو عام، اي ملك للجماعة السياسية، وما هو شخصي، اي ملك للزعيم، او القائد، او مجموعة زعماء وقادة. ويكاد هذا الامّحاء يسري على كل مناحي حياة الدولة. فالمال العام للدولة والجيب الشخصي للزعيم يكاد يكون واحداً. كثرة من قادة"حركات التحرر"بقوا يحتفظون بحسابات مصرفية خاصة باموال الدول بعد تحولهم الى رؤساء لها. وما يزال كثرة من زعماء الحركات السياسية يحذون حذوهم. ويتحول التصرف بهذه الموارد"حق"من"حقوق"الزعيم او الرئيس ومنبع خفي لسلطانه. كان اولاد الرئيس العراقي المشنوق يطبعون النقود الورقية على هواهم هذه وظيفة البنك المركزي. وحرص رئيس هارب على اخذ معظم سبائك المصرف الوطني معه. وعمد زعيم ثوري الى فتح حساب مصرفي لايداع كا المعونات الخارجية لشعبه باسمه الخاص. ويجاريهم زعماء الميلشيات في ذلك، داخلين خارجين بحقائب مترعة بالدولارات. فشلت حضارتنا في خلق المؤسسة وبقي الشخص. خذ أدوات العنف! في ظروف"النضال"ينظم الزعيم ادوات العنف، سمها جيش تحرير، او ميليشيا، او مقاومة، او انصاراً، لا فرق. فهذه القوة المنتجة للعنف تكتسب شرعيتها من غياب الدولة، اي غياب المؤسسة الحديثة الناظمة للعنف الشرعي. فالدولة الحديثة هي بالتعريف الهيئة الوحيدة المخولة بأن تحتكر وسائل العنف الشرعي. وان المشاركة في الدولة، او قيادتها، يعني بالضرورة قبولاً بهذا الاساس. اما الاحتفاظ بالميليشيات الخاصة، فهو نفي لهذا الاساس القانوني. وهو ينطوي على توتر بين الدولة كمؤسسة، والدولة كميدان شخصي من جديد فشلت حضارتنا في توطيد المؤسسة، وبقي الشخص. خذ مسألة الشرعية. تقوم الدولة الحديثة على قاعدة الحكم بالرضى، اي التفويض الحر من الجماعة السياسية، كما تقوم على قاعدة حكم الاغلبية. غير ان هذه القواعد، التي تحدد وسائل اختيار حكوم الجماعة السياسية، لا تحدد وظائف هذه الحكومة، ونعني بالتحديد وظيفة الحفاظ على العقد الاجتماعي المسمى دستوراً، فهو الأساس الذي اختيرت عليه الجماعة الحاكمة، وهو ينطوي على جملة حقوق: حق الملكية، حق الحياة، حق الاختيار، حق حرية الرأي والضمير، بما في ذلك حق الاختلاف، لكن سلسلة الحقوق هذه لا تنطوي، قطعاً، على حق الابادة والتدمير الجسدي. وان تجاوز الحاكم لهذه الحقوق هو الغاء القواعد الشرعية التي يقوم عليها حكمه. لقد فشلت حضارتنا في خلق المؤسسة الموضوعية وبقي الشخصي. يمكن الاستمرار في هذه السلسلة طويلاً، لكن حسبنا الاكتفاء ببعد آخر، هو تأبيد الحاكم فرداً او حزباً. يموت الزعيم فيخلفه نجله، او ارملته. وتنتهي زعامة الرئيس للمرة الخامسة فيعدل الدستور لتسديسها وتسبيعها وتثمينها. تداول السلطة، في الدولة الحديثة، هو اساس ثباتها. وتخشى حضارتنا هذا التداول، فالمجتمع ما يزال يرفل في دفء تنظيمات القرابة الاولية، العائلة والقبيلة، ثم الطائفة والجماعة الدينية. و تحتفظ مقولات القرابة بالثبات، غير عابئة بدينامكيات المجتمع الحديث. على استحياء تستبدل بعض الاحزاب زعمائها بعد ربع قرن، بينما تستبدل دول المعمورة زعماءها ووزراءها ورؤساءها بالجملة، بين عشية وضحاها، دون ان يلتفت احد كثيراً الى اسماء الذاهبين او اسماء القادمين. لنعترف ان البنى الاجتماعية الموروثة متحجرة، شأن معظم القيم التي تسوغها، وان هذا السكون النسبي لا يتفق ودفق الحياة الحديثة.