لعل السؤال الذي يُتداول في أوساط المهتمين بالشرق الأوسط سواء في الغرب أو الشرق على السواء: إلى اين تتجه مصر؟ الإجابة التي تسمعها أن مصر تتجه إلى المجهول، فطالما أن هناك غيابا للمعايير المنضبطة الحاكمة لإنتقال السلطة فإن عنصر الغموض هو سيد الموقف، ومع شخصية مثل الرئيس حسني مبارك يزداد الغموض أكثر فأكثر. عند غياب الرؤية السياسية الواضحة تكون السيناريوهات المتوقعة هي تقديرات شخصية بناء على دراسة الموقف وتحليل أوزان القوى السياسية وتطلعاتها وتكتيكاتها والمزاج الشعبي العام ورؤية القوى الحاكمة للنظام الدولي وتحليلات الخبراء، ويبقى هامش الخطأ وعنصر المفأجاة موجودا وبقوة. وفي تقديري أن هناك خمسة سيناريوهات سأرتبها حسب الأوزان الترجيحية لكل منها، وبشكل تنازلي من الأكثر احتمالا إلى الأقل. السيناريو الأول، وهو سيناريو تجديد العسكرة، هو الأكثر ترجيحاً. فالمؤسسة العسكرية المصرية تعتبر نفسها الحارس لنظام يوليو العسكري، فكما أن الجيش في تركيا هو الحارس للعلمانية الاتاتوركية فإن الجيش المصري هو الحارس لحق العسكر في تبوؤ رأس النظام بدعوى الحفاظ على مكتسبات يوليو الثورية. هذا السيناريو يمكن أن يحدث في حالة إختفاء مفاجئ للرئيس أو في حالة إندلاع فوضى عارمة وعصيان مدنى وأعمال عنف واسعة. وإذا حدث هذا السيناريو فهو بالتأكيد سيكون نكسة للدولة المدنية تجاه مزيد من العسكرة والتراجع الاقتصادي والسياسي وتقليص الحريات، ولكن سيكون أهون بكثير من التراجع المفزع الذي سوف يحدث للدولة المدنية في حالة تحقيق السيناريو الثاني، وهو سيناريو الدولة الدينية. فهذا هو السيناريو الكابوس الذي سيقوض دعائم الدولة المدنية خلال عدة سنوات إذا حدث، لا قدر الله، وهو الدخول في نفق مظلم لا يقل عن ربع قرن كما هو حادث في إيران. وفي هذا السيناريو سيكون الحكم بشكل مباشر أو غير مباشر لرجال الدين الجدد في الإسلام السياسي ومنظري هذا التيار وقياداته، وسيكون الجهد الأساسي موجها لتطبيق قوانين الشريعة وستتم أسلمة كاملة للثقافة والحياة والنظام العام. وتحت هذا النظام ستتهاوى بسرعة فكرة الحريات والديموقراطية الحقيقية وعدالة التشريع والمجتمع المدني وأركان الدولة المدنية. وإذا وُجدت ديموقراطية فستكون شكلية وتكون الخيارات السياسية المتاحة للمواطن بين الكوليرا والسرطان. إمكانية حدوث هذا السيناريو عبر حملة لغسيل العقول تحت شعارات دينية مزيفة تقود إلى خيارات مشوهة عبر صناديق الإنتخابات، أو عند إندلاع فوضى عارمة وتعاطف فريق من العسكر مع هذا التيار وتركه يسيطر على البلد، أو نتيجة لتغلغل هذا التيار في المؤسسات الأمنية والعسكرية، أو حتى نتيجة تراخي العسكر في حفظ الأمن في حالة الفوضى وترك البلد يسقط كثمرة ناضجة في أيدي هذا التيار. ما يدعو للأسف ان تيار الإسلام السياسي يستفيد من حالة السخط العام على النظام الحالي بما يفيد وصوله إلى الحكم، وتشارك أغلب القوى السياسية والثقافية، بما في ذلك نادي القضاة، سواء بقصد أو من دون قصد، في دفع هذا التيار نحو سدة الحكم. وفي تقديري ان كل من يعارض ويهاجم النظام الحاكم فقط، يعمل بقصد أو من دون قصد، لصالح الإسلام السياسي. لقد أصبحت البطولة الحالية للكتاب والمثقفين في مصر مهاجمة النظام وتدليل االإسلاميين أو عدم الاقتراب منهم، ويعمل الإسلام السياسي بنفس آليات الحكم الفاسدة وبذكاء شرير في شراء الذمم وحشد الأنصار وتحييد الخصوم، ولهذا قام النظام الحاكم بالتحفظ عن 34 شركة يملكها أفراد من هذا التيار لتعويق مهمتهم في شراء الذمم واستخدام المال كآلية لإفساد الحياة السياسية، وهي ما برع فيه النظام الحالى، وذلك بعد أن نجح هذا التيار في إحداث انقسام في الصحافة والثقافة والسياسة عبر عقد الصفقات التحتية وشراء الذمم، وهو ما تلاحظه لأول وهلة عندما تقرأ الصحف في مصر فتجد هذا الاستقطاب واضحاً وبشدة. كما نجح هذا التيار في تكوين لوبي داعم له في الغرب من الوجوه العربية المقبولة ففي واشنطن: فهناك لوبي داعم للإخوان بحجة حقهم في المشاركة السياسية والحصول على فرصة للحكم كغيرهم، وبحجة انهم تغيروا وأصبحوا اقرب إلى قبول الديموقراطية الغربية، على رغم عدم صحة هذا الكلام. ومشكلة الإخوان أنهم لا يريدون أن يلعبوا السياسة بالقواعد المتعارف عليها دولياً، وهي قواعد تنبع من الدولة المدنية القومية الحديثة، لكنهم يريدون من المجتمع كله أن يلعب بقواعدهم هم. لا يريدون أن يتم إحتواؤهم على أرضية وقواعد الدولة المدنية، بل يسعون الى إحتواء المجتمع على قواعد الدولة الدينية حتى ولو ادعوا غير ذلك. وهم لا يريدون أن يحصلوا على فرصة كما يدّعون، وإنما يسعون لتأميم الفرص وفقاً لقواعدهم الخاصة. وهم يتحدثون عن الديموقراطية والدولة المدنية والمواطنة ولكن عندما تقرأ تعريفهم المفصل لهذه المصطلحات تدرك أن الديموقراطية لديهم استبداد ديني والدولة المدنية دينية الشكل والجوهر والمواطنة قسمة الى مسلم وغير مسلم وإستعلاء وتفرقة دينية. أما السيناريو الثالث فيقوم على الترتيب المسبق في مؤسسة الرئاسة لإنتقال الحكم الى أحد أفراد المجموعة المحيطة بالرئيس، أو الى شخص موضع ثقته بما يحافظ على سلامة أسرته بعد رحيله، وكذلك يحافظ على الامتيازات، أو على الأقل يمنع الملاحقات، للعشرات من المقربين للنظام الحالي وأعمدته الرئيسيين. وقد يكون ذلك عبر تعيين مفاجئ لنائب الرئيس في لحظة حرجة أو يكون الأمر متفقاً عليه بشكل سري بالترتيب مع الأجهزة الرئيسية . لكن شخصية الرئيس مبارك ومراقبة الأجهزة لبعضها يضعفان فكرة الترتيب السري ويجعلان هذا السيناريو صعب التحقيق إلا في حالة تعيين مفاجئ لنائب الرئيس يكون قد استقر عليه البيت الرئاسي باعتباره الرئيس المقبل. أما السيناريو الرابع، سيناريو التوريث، فهو الذي يتحدث عنه الشارع المصري باعتبار ترتيب البيت لإنتقال جمال مبارك الى الحكم. وإذا تم هذا السيناريو سيكون ذلك فقط عبر الإنتخابات المدارة، أي عبر صناديق الإنتخابات وبالطريقة نفسها التي تدار بها الانتخابات حاليا. ولكن، في تصوري، هذا السيناريو صعب التحقيق لأسباب كثيرة: أولا النفي المتكرر من طرف الرئيس ونجله لرغبته في حكم مصر، وكان حديثه الأخير بمناسبة زواجه الأكثر وضوحا حيث نفى فكرة الترشيح للرئاسة من أساسها، وبهذا يكون نفى بشكل قاطع رغبته في التوريث الديموقراطي الشكلي أي عبر الإنتخابات المدارة. وثانياً، هناك رفض الشارع في معظمه لتولي جمال مبارك للحكم، فهناك معارضة واسعة ومنتشرة ورأي عام شكلته الصحافة ضد مبدأ التوريث سواء المباشر أو عبر الإنتخابات. وثالثاً، لأن جمال لا ينتمىيإلى المؤسسة العسكرية الذي لم يسمع تصريح واحد لأي من قياداتها يتحدث عن حقه في تولي الحكم، أو يُفهم منه دعم فكرة التوريث. ورابعاً، هناك غموض الموقف الأميركب تجاه جمال وهو ما يفسر بعدم التأييد، ولكن إذا حدث التوريث بسلاسة ولم يعترض عليه الداخل فلن تكون هناك أي معارضة لذلك في اوروبا واميركا. وأخيراً، هناك النفور العام من فكرة التوريث لأن جمال ليس مواطنا عاديا نشأ وترعرع في أجواء سياسية عادية وسينافس على قاعدة المساواة السياسية. فهو نجل الرئيس الذي فتحت أمامه الأبواب المغلقة ومهدت له الطرق، مما جعله يخرج فجأة من دون خبرة سياسية مسبقة. على أن هناك إستغلالا خطيرا من قبل جماعة الاخوان وحلفائهم لموضوع التوريث وتصويره على أنه السيناريو الوحيد المتاح للمصريين وتقديم أنفسهم كبديل أفضل من التوريث. وهذه لعبة خطيرة تصب في النهاية في صالحهم، وأحد تكتيكاتهم لتنفير الشارع من المستقبل لصالح جماعتهم. ويبقى السيناريو الخامس، سيناريو الأمل والإصلاح، ويؤسفني أن يكون في ذيل القائمة رغم أنه طريق التقدم وبوابة مصر إلى العالم الحديث. لكن النظام الحالي نجح في تكسير وتفكيك المعارضة السياسية الحقيقية وسمح فقط باستمرار الكيانات الضعيفة لكي تظهر كمعارضة شكلية ديكورية، كما نجح في إضطهاد الشخصيات المستقلة ومطاردتها، ونجح أيضا في تخريب الشارع بالمزاودات الدينية ونشر ثقافة الدروشة الدينية وتسليط المؤسسات الدينية على المصلحين والمبدعين. فلم يبق من المعارضة إلا ما هو على شاكلة النظام في إستخدام الدين وفي إستخدام أدواته الفاسدة، لم يبق إلا الإسلام السياسى الذي يشكل الوجه الآخر للنظام ولكن بشكل أكثر فجاجة دينياً وأكثر تخلفاً إنسانيا وأكثر إستبداداً. لقد نجح النظام الحالي في تقويض كل محاولات الإصلاح سواء جاءت من الداخل أو بضغوط من الخارج ونشر عالماً من الزيف: الديموقراطية المزيفة والاصلاح المزيف والمؤسسات المزيفة والإنتخابات المزيفة والشرعية المزيفة. وفي عالم من الزيف من الصعب التنبؤ بالحقائق المستقبلية، ولهذا نعود ونكرر أن مصر تتجه للمجهول. * كاتب مصري مقيم في الولاياتالمتحدة والمدير التنفيذي ل"منتدى الشرق الأوسط للحريات".