لا يجوز ان يضيع ما تشهده الساحة الفلسطينية في متاهات المسؤولية عن العنف والتصفيات في قطاع غزة والردود الثأرية في الضفة الغربية. ولا يجوز ان تضيع معاني استيلاء حركة "حماس" على القطاع في خضم الجدل على شرعية الحكومة المقالة او شرعية رئاسة السلطة. ولا يجوز ان يظل الموقف العربي حكما بين فصائل في الوقت الذي تخطت الوقائع والممارسات ما يحاول العرب ان يفعلوه لإنقاذ القضية. ولا يمكن الوصول الى معالجة للانشقاق الداخلي الفلسطيني، في حال ما زال ذلك ممكنا، اذا اقتصرت هذه المعالجة على الجانب التقني من المسألة: تشكيل حكومة او تحديد آلية عمل الاجهزة الامنية او حدود الصلاحيات الخ... ولجنة التحقيق التي خرج بها الاجتماع الوزاري العربي اول من امس في القاهرة قد تقع في كل هذه المحظورات، ما لم تعد الى اساس الازمة. وتحدد الفصيل الذي عمل على تفجيرها، بالسياسة اولاً ومن ثم بالعنف. والتوقف مليا امام الوضع الاقليمي لهذا الفصيل، رغم كل ما يعلنه من اهتمام بحل للقضية الفلسطينية. وعلى اللجنة ان تفعل ذلك، خصوصا لأن حبر الإجماع العربي على مبادرة السلام السعودية، ولأن حبر اتفاق مكة بين"فتح"و"حماس"لم يجفا بعد. ولأن ما تقوله"حماس"وتفعله يتعارض كليا مع المبادرة والاتفاق، أي يتعارض مع الاجماع العربي. ولأن ما تدعو اليه علنا يقع في صلب استراتيجية المحور السوري - الايراني الساعية الى ايقاع اكبر قدر من الاضطراب لمنع تحقيق ما تدعو اليه المبادرة العربية في قضية الحل مع اسرائيل من جهة. والساعية الى تجميع أكبر عدد من الأوراق في اي بلد عربي ليتولى اصحابها بأنفسهم قضية المفاوضات بحسب ما يرونه من مصالحهم من جهة اخرى. من هذه الوجهة ينبغي النظر الى السلوك"الحماسي". فالحركة الاسلامية رفضت اتفاقات اوسلو، وما تزال، ورفضت المبادرة العربية، وما تزال. وهي شاركت في الانتخابات التشريعية الاخيرة المنبثقة من اوسلو لأنها ضمنت فوزاً يتيح لها نسف هذه الاتفاقات، من داخل السلطة. وهي حافظت على الموقف الملتبس من المبادرة، وبالاشتراك في اتفاق مكة، من اجل تعزيز موقعها العربي. وفي كل هذه المواقف لم يكن الهم الطاغي لديها ادارة الصراع من اجل الدولة الفلسطينية، وإنما من أجل إلغاء ما تحقق منذ اوسلو، وفرض الواقع الجديد الذي يلغي عملياً أي بحث جدي في حل للقضية الفلسطينية. ومثل هذه الاستراتيجية تتطلب القضاء على سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني المستندة الى شرعية منظمة التحرير، هي المنظمة التي كانت الهدف الدائم للمحور الاقليمي الذي تنتمي اليه"حماس". ومنذ اعلان نتائج الانتخابات التشريعية لم تفعل"حماس"في الاراضي الفلسطينية وخارجها إلا وضع السلطة في موقع الاتهام، في ادارتها النزاع مع اسرائيل وفي علاقاتها العربية والدولية من جهة، وقضم كل ما يمكن قضمه من هذه السلطة لمصلحتها الحزبية. وعندما ترمي اليوم المسؤولية على الحصار، فإنها لا تفعل الا هجاء حلفاء السلطة من الدول المعنية بالوصول الى حل سلمي للنزاع على اساس إقامة الدولة الفلسطينية. لماذا قررت"حماس"الآن ان تحسم عسكرياً في غزة، بعدما حاولت على امتداد شهور طويلة الايحاء بتبنيها الحوار وتحريم الدم الفلسطيني؟ ثمة سببان مباشران للخطوة. الاول هو وصول رعاة الحوار، خصوصاً السعودية ومصر، الى الطريق المسدود بفعل استنتاج ان القرار"الحمساوي"ليس في أيدي مفاوضي الحركة، وإنما في يدي المحور الاقليمي الراعي للحركة. والآخر، هو اصطدام هذا المحور بصعوبات جدية لتحقيق اغراضه عبر لبنان. لقد اقفل القرار الدولي الرقم 1701 خط التماس بين هذا المحور واسرائيل، عبر حلفائه اللبنانيين. وبات صعبا بالنسبة اليه تحريك الجبهة الشمالية لإسرائيل بحسب مقتضيات مصالحه. ولا بد من نقل هذا الخط الى مكان آخر، ساعد طغيان نفوذ"حماس"في القطاع على اختيار الجبهة الجنوبية لاسرائيل. وكما كان الوضع في جنوبلبنان، قبل القرار 1701، بات القطاع خط التماس الجديد للمحور الايراني - السوري مع اسرائيل. وفي هذا المعنى، شكل الاستيلاء العسكري ل"حماس"على القطاع نوعا من الرد على القرار ال1701. ومن الواضح ان الشعب الفلسطيني ومعاناته ومصيره ليست في سلم اولويات مثل هذه الجبهة الجديدة. فهي ستخضع للاعتبارات الاقليمية وستظل خاضعة لها، سياسيا وماديا، مهما تبارى زعماء"حماس"في اعلان شوقهم الى تحرير فلسطين.