تعليقاً على الأزمة الداخلية التي تعصف بتركيا، على خلفية رفض"العلمانيين"وفي مقدَّمهم العسكر، ترشّح مرشح"العدالة والتنمية"، وزير الخارجية الحالي عبد الله غول، لمنصب رئاسة الجمهورية، وما فرزته هذه الأزمة من معطيات وتفاعلات كانت مثار استقطاب وتجاذب على كافة الصُّعد، وترقُّب واهتمام خارجي، وردَّاً على من يضعون العصيّ في عجلة"الديموقراطية"التركية، بحجَّة الدفاع عن علمانيتها، نشرت صحيفة"الزمان"التركية في عددها الصادر يوم 13/5/2007 مقالاً حمل عنوان:"الدولة التركية التي لا تُمسّ، هي حكم من غير شعب"، للكاتب التركي ممتاز آرترك أونان، ينتقد فيه بشدَّة أولئك الذين يتباكون على علمانية الدولة، محاولين تعطيل أهم معلم من معالمها، ألا وهي اللعبة الديموقراطية التي يستثمرها"الإسلام السياسي"حالياً لحدودها القصوى، قائلاً:"علينا أن نفرِّق بين الجيش، وبين السياسيين الضعفاء الذين يحاولون التلطي وراءه، وبينه وبين أصحاب المصالح والمنافع الذين يلوحون للجيش بالانقلاب، حفاظاً على مصالحهم الخاصة. وما يسمونه سلطة الدولة، ليس سوى شبكة من المنافع الشخصية خارج مراقبة الشعب. وتحاول هذه القوى حماية مصالحها من طريق حماية القصر الجمهوري والرئاسة... والحق أن وقت محاسبة هذه القوى حان، وينبغي وقفها عند حدها. فلا يمكن أن يعيش أحد في هذا العصر تحت حكم ثيوقراطي، بذريعة حماية النظام والعلمانية. والانتخابات القادمة، لن تكون تنافساً بين الأحزاب، بل تصفية حساب بين الشعب وبين من يسمي نفسه نظام الدولة وسلطتها، أي الأوليغارشي الذي يريد أن يحكم الشعب من غير حساب ولا رقابة. وإذا لم يفز الشعب في هذه الانتخابات، فعلى تركيا أن تودع أحلام الأمن والنمو والغنى والكرامة". ومن خلال هذا المقتبس من المقال، نخلص الى جملة نتائج أهمها: 1- لا يزال المثقف التركي محكوما بهاجس الخوف والرهبة من ذكر الحقيقة كاملة، وما قد يترتَّب عليها من متابعة أو ملاحقة أو عواقب أمنية هو بغنى عنها، بحيث ينتقد القوى التي تدَّعي حماية العلمانية، من أحزاب سياسية، بتعطيلها للدولة، وهذا الوجه الأول من الحقيقة، ويتجاهل أو يتعامى عن ذكر الوجه الثاني، المتمثِّل بمؤسسة العسكر، المنتجة والمغذِّية لهكذا قوى وتيارات، على مدى ثمانية عقود ونيِّف من عمر الجمهورية الحديثة. وهو يعلم تماماً بأن مكمن الأزمة ومفتعليها هم الجنرالات، وإن الديموقراطية في تركيا، ستبقى قاصرة وعاجزة عن حل المشاكل الداخلية، إن بقي العسكر هم طهاة السياسة. 2- لا يزال المثقف التركي ينظر بعين واحدة لمجمل الشعب، بحيث يعتبر كاتب المقال ان"الشعب"هو حزب العدالة والتنمية، الذي سيحاسب"الأوليغارشية"المتمثلة بالطرف الآخر، الخصم، للعدالة والتنمية، في الانتخابات المزمع إجراؤها في 22 تموز يوليو المقبل. والعكس صحيح، حيث يعتبر الطرف الآخر، حزب العدالة والتنمية مناهضا ومعاديا للشعب، عبر استهدافه لقيم الجمهورية وعلمانيتها، منصَّباً نفسه"الشعب"ومنصباً الطرف الآخر"أعداءه". 3- رغم أن هذه الأزمة قد جعلت النخب الثقافية التركية، تعيد النظر في الكثير من المفاهيم والمسلمات، كالدولة والسلطة والعلمانية والديموقراطية...، على نطاق واسع في الإعلام، إلا أن المثقف"العلماني الحقيقي والإسلامي الحقيقي"يتوخَّى تناول أفكار أتاتورك الذي يقود البلاد من قبره، بالنقد والمراجعة، وكأنها"مقدَّسة"، في وقتٍ، كلا الطرفين"المتخاصمين"يتبجَّحان ب"ديموقراطية"تركيا، وهامش الحرية فيها، وهم غارقون حتى النخاع في الوثنية السياسية، عبر توظيف لغة التهديد والوعيد. 4- لا يزال المثقف التركي، يتجاهل أن كلا من الطرفين، أدعياء"الإسلام الحداثوي"وأدعياء"العلمانية والديموقراطية"من قوميين ويمينيين وأنصاف يساريين، هم خطر على مستقبل تركيا. فكلا الطرفين غير جاد في إنقاذها من المأزق الذي تعيشه، لتهافتهما على مغازلة معشر الجنرالات، وفي أحسن الأحوال، تجنُّب إغضابهم. والكثيرون من المتابعين للشأن التركي يشيدون ب"ديموقراطية تركيا"و"الإسلام الحداثوي"للعدالة والتنمية. والحال هنا، إن الواقع التركي، يُشكلُ على من ينظر إليه من بعيد، ما يجعل مجال الرؤية لديه معاكسة لما هي عليه الصورة الحقيقية لتركيا. بحيث جعل الكثير من المثقفين العرب، يشيدون بديموقراطية هذا البلد، والحداثوية الإسلامية السياسية لأردوغان وجماعته. والحق، أن ليس هنالك إسلامي حداثوي وإسلامي ماضوي، الإسلام إسلام. وإن التسليم بهذا الفهم، سيؤدي بنا للقول: بوجود إسلام آسيوي، وآخر أفريقي، وثالث أوروبي، ورابع أميركي... وعاشر ما بعد حداثوي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، الديموقراطية في تركيا قاصرة، لأنها تقف على قدم واحدة، وهي العلمانية، التي فصلت الدين عن الدولة. لكن، هذه الديموقراطية، وعلى مدى ثمانية عقود، لم تستطع إبعاد ثكنات الجيش عن المؤسسات الدستورية نهائياً. فما جدوى العلمانية التي تلغي وصاية الدين عن الدولة، لتبتكر ديناً آخر للدولة، تسميه"الكمالية"أو"الأتاتوركية"التي لا ينبغي المساس بمبادئها...!؟. وألا يتساءل المثقف التركي، هل عرف التاريخ يوماً ديموقراطية، تنتجها وتحرسها حراب بنادق العسكر؟!. وعليه، يمكن القول: إن الديموقراطية اللبنانية، على عللها الطائفية، والحروب الأهلية التي مرَّت بها، أنضج من الديموقراطية التركية، لأن الجيش في هذا البلد، مؤسسة وطنية وبعيدة عن السياسة. بعكس تركيا، فالجيش ليس مؤسسة وطنية، لأنه في خدمة فئة من الشعب ضد أخرى، وهو منغمس في طهي اللعبة السياسية على مدى تاريخ تركيا الحديثة. وحين يفقد الجيش حياديته في حل أي مشكل سياسي داخلي، لا علاقة له بأمن الوطن، حينئذ يغدو فاقداً للمصداقية الوطنية، وهذا أخطر ما تتجاهله النخب الثقافية التركية. * كاتب كردي سوري.