في عام 1982 أصبح امين الجميل رئيساً للبنان بالصدفة، او بطريقة استثنائية كما يصفها بعض السياسيين اللبنانيين، ليخلف اخاه بشير الجميل الذي اغتيل قبل تسلمه المنصب، فرحبت الاطراف المتصارعة في لبنان بالخلف الذي يمثل تياراً معتدلاً في حزب"الكتائب"، مقارنة بشقيقه بشير الذي كان متحمساً لاجتثاث سلاح الفلسطينيين ووجودهم في لبنان بالقوة، حتى ان احد معاونيه، وهو فادي افرام، طالب في مقابلة مع تلفزيون"بي بي سي"بقتل الاطفال الفلسطينيين لأنهم مشاريع مقاتلين في المستقبل. لكن تيار بشير المتطرف داخل"الكتائب" انطفأ، ومرت سنوات حكم الرئيس امين الجميل بهدوء وصل حد العجز. فلم يتمكن الرئيس الهادئ من تحريك ساكن، لكن هذا"الهدوء"جاء بالعجائب، فقبيل نهاية فترة حكمه بدقائق نصب الجنرال ميشال عون رئيساً للوزراء، وادخل البلد في ازمة طاحنة. وخلال الازمة الراهنة تمسك امين الجميل بالهدوء مرة اخرى، وصبر على التهميش، وتعامل مع خصومه السياسيين في شكل مثير للاعجاب، وتحمل جريمة اغتيال ابنه بيار على نحو مدهش، فاستقبل الاغتيال البشع بصبر كبير. لكنه مرة أخرى يقطع هدوءه في شكل استثنائي فيعلن تعليقاً على احداث مخيم نهر البارد، خلال حفل في مناسبة دخول المحكمة الدولية حيز التنفيذ،"ان المسيحي لن يقف مكتوف الايدي في حال وصلت الأمور الى تهديد حقيقي لوجوده ودوره وكرامته، فحذار من اللعب بالنار". ان الزج بقضية"الوجود المسيحي"في هذه المرحلة الخطيرة من تأزم الوضع على الساحة اللبنانية لا يمكن تفسيره بحسن نية، فالمتابع للأزمة الراهنة في لبنان يجد انها تجاوزت المسألة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، بل شهدت تكتلات سياسية جديدة، واشكالاً من الائتلاف بين المسيحيين والمسلمين، وبدأ الشارع السياسي في لبنان يتحدث عن بوادر ازمة مذهبية بين المسلمين، وتجاوز اللبنانيون في الخطاب والتحرك الادبيات السياسية التي خلفتها الحرب الاهلية، حتى ان سمير جعجع قال في مقابلة معه رداً على ذوبان المارونية السياسية في التيار الاسلامي:"من يقرأ توجهات تيار المستقبل يجد انها تعبير عن الافكار التي ناضلنا من اجلها على مدى 30 عاماً"، وجعجع بهذه الاجابة الذكية اراد ان يقول انه اليوم يتحرك بدوافع وطنية، وان هدفه في النهاية تحقيق اهدافه بصرف النظر عن الاطار السياسي لها، فضلاً عن ان احداث نهر البارد نشأت في ظل ازمة لا علاقة لها بملف"الوجود المسيحي"، وهي تستهدف تعطيل الدولة وصولاً الى منع قيام المحكمة، ولهذا فإن المخاوف التي طرحها الرئيس السابق امين الجميل تثير الريبة، وتستدعي من قوى الغالبية، والمسيحيين منهم تحديداً، التعامل معها بجدية، فالعودة الى هذا الخطاب الطائفي في غير مناسبة تطرح علامات استفهام كثيرة، وتفتح مجالاً واسعاً لتأكيد الاتهامات التي يرددها خصوم الغالبية من ان الاخيرة تسعى لتسويغ تدخل عسكري غربي في لبنان، وتستخدم دم الحريري لأغراض غير وطنية. لا شك ان ما يجري في لبنان اليوم يستهدف اللبنانيين على اختلاف طوائفهم. فإذا كان تصريح أمين الجميل نابعاً من خوفه على مستقبل لبنان فإن تسمية المسيحيين هذر سياسي ليس له معنى، وإذا كان قلقه بسبب تأثير هجمة القوى الاصولية على المنطقة، والتي تقابلها اصولية سياسية اميركية لا تقل تطرفاً، فإن ما يجري من احداث يكذب هذه المخاوف، فالاقتتال في العراق مثلاً، بات معركة هيمنة بين واشنطن وطهران حطبها صراع سني - شيعي يقف فيه المسيحيون العراقيون على الهامش. صحيح ان المسيحيين في لبنان ليسوا في احسن حال على المستوى السياسي، لكن التهميش السياسي، بسبب غياب الأقطاب المسيحية الفاعلة، شيء و"تهديد الوجود شيء آخر"، فضلاً عن ان وضع المسيحيين في المجتمع اللبناني لم يتأثر وما زال في الريادة في غير مجال، رغم التنافس الساخن بين الشيعة والسنة على معاودة اقتسام السلطة. الاكيد ان ما يسمى بالقلق المسيحي في لبنان بات مجرد كلام للترف بين النخب السياسية، فلا توجد في لبنان اليوم توجهات تستهدف الوجود المسيحي، فحتى قضية توطين الفلسطينيين، على فرضية جديتها، تصب في خانة التوازن بين الشيعة والسنة، ولهذا فإن تصريحات أمين الجميل لا تجد تفسيراً مقنعاً في حال استخدمت في تداعيات أزمة نهر البارد، اللهم الا اذا كان الرئيس السابق أمين الجميل يريد ان يعيدنا الى معالجة الوضع الفلسطيني في لبنان بالأجندة القديمة التي كان يتبناها الراحل بشير الجميل، وفي هذه الحالة فإن موقف كل القوى اللبنانية في الموالاة والمعارضة يجب ان يتحد أمام هكذا تصريح، لأنه باختصار يسمح بتدخل اسرائيلي لحسم قضية المخيمات، ويحرض على تدمير كل التحالفات السياسية الهشة على الساحة اللبنانية. ان تصريحات أمين الجميل مؤشر الى ان الرجل محبط، او أنه يتطلع الى دور خارج النسق السياسي الراهن، وهو حين يتخلى عن الهدوء يفتح ابواباً يصعب غلقها، ويصير كلامه ممراً لحقبة موحشة، فتاريخ الرجل يؤكد بوضوح ان رؤيته السياسية يجملها الصمت، واذا تكلم فما عليك سوى ان تردد القول المأثور"آن لأبي حنيفة ان يمد رجليه"!