غادر رفيق الحريري التنظيم السياسي الذي انتمى إليه في فترة الدراسة وبقي على حبه لمدرسة القوميين العرب ورجائه ببعث ملامحها النهضوية وإيمانها الوحدوي. ترك لبنان الى السعودية، أرض ميعاد الطامحين الى كسر حلقة الفقر، وهو الذي سُدّت بواب الرزق في وجهه، بعد أن حاول جاهداً ايجاد وظيفىة صغيرة له في مجلة "الحرية" ريثما يتدبر الحال. في غضون سنوات قليلة، تمكن الشاب المثابر من أن يصبح متفوقاً، لصدقه وإقدامه في مجال الأعمال وتعلقه بمعنى الصداقة والوفاء. ومن خلال مزاملته مدراء الشركات الأجنبية ورجالها، وملازمته رجالات المملكة النافذين، أكمل ثقافته وطعّمها باللقاح العملي والعصري، وصالح، في عمق ذاته، البعد القومي والحداثة، السياسة والمال، الناصرية وأهل الخليج، وعلى الأخص سحر الشرق الروحاني ومادية الغرب. لم يُعرف عن هذا البنَّاء المسكون بالنجاح ارتداد أو نسيان لأحلام الصبا. عزم عن النشاط السياسي بصيغته المؤسسية المعهودة، وانخرط في سلك واهبي الفرص، توطئة لولوج نادي صُنَّاع السياسة ومبتكري الحدث. اجتمعت لديه الهمة/ اللوثة ورافعة المال في كنف راعٍ محترز في الخطاب، رأى فيه الثري الشاب القادم من جوار فلسطين حلاّل الأزمات، الجدير بالأمانة، والضامن لجمع الشمل، في مرحلة انهيار حركة التحرر الوطني. وفّرت المملكة، كما درج الحريري على تسميتها باختصار بليغ الدلالة، أدوات النجاح، وأعطته بسخاء واحاطة، فدان لها بوفاء شديد معلن وأكبر في قادتها الفروسية والأصالة العربية وحكمة الصابرين. سهَّل له ذلك الانداج في بيئتها، ونقل اليه عدوى البر سبيلاً، فما أُوصى حريص، وراح يستذكر رفاق الصعاب وأيام الشقاء، واضعاً نصب عينيه الإيفاء بنذر قطعه على ذاته بما أنعم عليه المنَّان. ومن معترك العمل الى خضم السياسة تغير الموقع ولم يتبذل الموقف القادم من إيمان قومي ونشأة رافقته أحداث جسام طبعت وجدان الصبي الصيداوي إثر نكسة 48 هزيمة الجيوش العربية، وصدمت الشاب المتوثب مرتين بفاصل سنوات ثلاث شهدت هزيمة حزيران عام 1967 وموت البطل عبد الناصر بعد أيلول الأسود عام 1970. انما افترق مثيل معظم الشباب اللبنانيين ذوي النزعة والممارسة اليسارية أو القومية العربية، عن أقرانه، بثرائه الذي مكنه الانتقال من النظري الى الميداني"من هذه الطينة استقى الحريري مساره، ومن هذا المنطلق راوده الطموح السياسي. وحسب عارفيه، يستفاد أن الحريري جبل باحساس وطني عميق ترجم واقعياً بذلاً وعطاء لإيقاف الحرب الأهلية، ونشاطاً عارماً في كواليس مؤتمر الطائف تمثل بالتنسيق بين المجتمعين والمساهمة في صياغة مسودة الاتفاق. لم يذهب الحريري الى السياسة، هي جاءت اليه، هذا قدره، وشكل صناعة حياته. من هنا، قعد الحريري في الخيار لزوماً لنهجه وتوكيداً لؤيته أياً يكن الموقف المقابل من حركته وموقعه المتنامي في الحياة السياسية اللبنانية. بيد أن النظام السائد كان أقوى من صاحب التجربة، وانتهى، بعد مشاكسة دائمة وعناد، الى قتله مرتين: معنوياً عبر إجهاض مشروعه ومنعه من ايصاله الى خواتمه، وجسدياً بتصفيته واستشهاده، عبثاً حاول رفيق الحريري الامساك بمفاصل النظام، وخطأ الحريري القاتل دفع أثمان التخلف البنيوي لهذا النظام بالذات، وهو الغريب عنه في الأساس، والبعيد عن علاقة عضوية به على غرار السياسيين التقليديين. إلا أن بلورة حضوره السياسي استمرت اشكالية خاضعة للنقاش، لينتقل زورق التنظيم بين حزب وتيار، ويرسو على صيغة التيار الهجينة، اسماً يعوزه العصب الفكري، وثوباً فضفاضاً يضم ويلم دون رابط عضوي وثيق. رحل رفيق الحريري في ظروف مأساوية، وكان علة ورثته تدبر الأمر، فعقدوا اللواء لنجهله سعد الدين. بايع التيار رئيسه المقبل حين علا الهتاف له خلال التشييع، وتقاسمت العائلة الإرث والمهمات. كما في حال وليد جنبلاط إثر اغتيال كمال جنبلاط عام 1977، كان على الوريث تسيير الدفة بلا إبطاء والتأقلم مع المحيط والتعامل مع طاقم المعاونين والمستشارين الذين تحلقوا حول دارة قريطم وبخاصة الانخراط الفوري في انتفاضة الاستقلال من موقع المسؤول عن جمهور عريض وحامل الرسالة المعني مباشرة بالتصدي للنظام الأمني المشتبه به في الإعداد للجريمة. وجد تيار المستقبل زخماً غير مسبوق، وبات بوضوح مشدوداً الى مرجعية عنوانها التركة الحريرية ببعديها الإعماري والكياني، وصاحب قضية اسمها اغتيال الرمز العملاق. سوى أن هول المكيدة أجهزة على اسلوب المهادنة العزيز على قلب ملهمه الشهيد، وأسقط كل التحفظات حيال معركة مكشوفة، ثبت بالملموس أن محاولات تجنبها باءت بالفشل بدليل دم الضحايا المسفوك والعبث الفوري بمسرح الجريمة. ومع وليد جنبلاط، استقر الرأي على هندسة الحلف الرباعي مع أمل وحزب الله في سعي جاد محرج وحتى مؤذ لسائر الحلفاء لكسب ود الكتلة الشيعية والتحوّط لتهدئة جبهة الداخل، وضمان اجراء الانتخابات التشريعية. كان الحرص على طمأنة المقاومة حاضراً بقوة في ذهن الحليفين، لكن حسابات الحقل سمحت فقط بتمرير الاستحقاق النيابي واجتياز مرحلة صعبة، حالما تبينت حدود التفاهم الممكن الذي أرسته بعد الانجاز المحقق في اجتماع ضغط الداخل والمجتمع الدولي وفرض انسحاب القوات السورية من كامل الأراضي اللبنانية. بدأت المشاغلة مع طرح المحكمة الدولية، وانتقلت تباعاً الى حرد الفريق المتحالف مع دمشق والمشاغبة المكشوفة، انشغل الحوار الوطني باحتوائها، وهوى مع قرار حزب الله باطلاق عملية 12 تموز وما تبعها من حرب اسرائيلية مدمرة على لبنان. مذاك تعطلت لغة التواصل، رغم ذهاب سعد الحريري الى جلسات متواصلة مع رئيس المجلس النيابي المفوّض من المعارضة، في محاولة يائسة لفك الاشتباك. فرضت متغيرات الداخل على تيار المستقبل الاسراع في رفع وتيرة الحشد وتمتين التنظيم بما ملكت يداه أولاً في بيئته الطبيعية وحاضنته التاريخية، عنيت الوسط السني. فعل ذلك تحت وطأة الأحداث، تحسباً للمباغتة، ونزولاً عند مطلب جمهوره وحراكه المعنوي وبياناً لثقله الشعبي في غالب المناطق. واستعجل ذلك أيضاً مخافة تمدد التيارات الأصولية والسلفية نتيجة"الصحوة"الاسلامية وما يجري في الخفاء لدفعها الى نخر القاعدة الشعبية وصرفها عن الاعتدال، وتأجج المشاعر المذهبية وردود الفعل على نبرة خطاب حزب الله المتعالية. بيد أنه لم يعدم الوسيلة في الاتكاء على رافعة اللحمة المذهبية وتوظيفها على نحو الدفاع عن الهوية الخاصة والموقع ونصيب الطائفة من اتفاق الطائف. يواجه تيار المستقبل معضلات جمة في صياغة المعادلات وضبطها. فمن غير المستغرب أن تكون ذراعه التنظيمية وأدواتها قاصرة عن تأطير قواعده الوازنة لمجموعة أسباب، أخصها ضألة محمول جعبته الفكرية وحداثة التجربة ونوعية المولجين بالعمل"الحزبي"، وأخطرها ذلك الاختلاف العميق في السلم الاجتماعي والواقع الهلي بين نخبه وجمهوره، اضافة للفوارق المدينية والمناطقية حيث تسجل أعلى نسب الفقر والحرمان، ويشكو مواطنو الأطراف من إهمال الدولة وندرة خدماتها. ان البنيان المستقبلي قائم على رابطة هشة من ناحية وحدة المصالح والمنظومة"الايديولوجية"، يجد عماده في دائرة الكيانية الجهوية ومشترك الانتماء المذهبي، تشحنه روح الجماعة بالبعد الوجودي ونازع التكاثف. شكّلت الحريرية ظاهرة لافتة منذ أولى خطواتها، ولقد امتدت وتأصلت تعبر عن زوجي الحالة والحاجة وتفي بشروط اجتماعهما في لحظة تاريخية معينة أسست لحقبة. ونظراً لما لحق بالبُنى التحتية والمرافق العامة من دمار جرّاء الحرب الأهلية الطويلة، غلب الميل لتعريفها بالمشروع الإعماري المهني للنهوض الاقتصادي وإبقاء نسبها الليبرالي الفاقع، أي غلافها النظري في الظل. استقى الرئيس الشهيد مفاهيمه الاقتصادية وما استتبعها في السياسة من تجربته العملية وتوفيقيته الهادفة الى غرس العروبة المنفتحة والصادقة في الحداثة. انما أسبغ على مراده لون المقاولة التي أتقنها، وأفرد الصدارة للقطاع المالي لمعرفته بلزومه وعصبه في عملية النمو، رغم عيوب أربابه وشهيتهم المفرطة، وغربة معظم روّاد تياره عن فلكه ومعاييره القيمية. ولقد استطاعت الحريرية ردم هذه الهوة معنوياً وجزئياً من خلال شبكة العون والرعاية الاجتماعية الخاصة بها، وانفاق الحريري بسخاء مشهود على سبيل المداواة والتعويض. انسجم خيار الوسطية الذي ألّفهُ تيار المستقبل مع طبع مؤسسه وأسلوبه في العمل، الواثق دون استعجال، أي تلك السمة التي تمثل العلامة الفارقة بين رجل الأعمال المقتدر والمضارب. إلا أن الحقل السياسي، المحلي والاقليمي، لا يطابق ميدان الأعمال في المنهج والأصول المتبعة والأعراف. لذا كان على الحريري أن يهادن ويساوم ويغض الطرف عن الممارسات الأمنية، ويرتضي بمساكنة أخصامه اللدودين وشراء الوقت بالصبر وغيض من فيض المال. وإذ فشلت المرونة والصداقات في إنقاذه من مخالب نقاده وحاسديه، وقع ضحية مشاغلة على مدى سنوات، أودت الى مؤامرة أجهزة عليه جسدياً، وبالتأكيد يمكن اعتبار تاريخ استشهاده يوم 14 شباط فبراير 2005 فاصلاً حمل تيار المستقبل الى فضاء جديد وحسم مسألة العلاقة المستحيلة بالنظام السوري وحلفائه في لبنان، ووضع حداً للازدواجية الشكلية والمحنة التي عاشها لعقد ونيف. حينئذ، تحرر التيار من المكبوت والضوابط، وجاهر بأولوية السيادة والاستقلال المطلقة والروابط التي سوف تجمعه وثيقاً بشركائه في الداخل، وبالحاضنة العربية التي تقف السعودية في طليعتها. ومنذ البدايات، فوّض الرئيس الحريري أمر بناء التيار وتنظيمه الى مقربين مخلصين تعوزهم الخبرة، مستنداً الى تجارب الماكينة الانتخابية. لم يكن ملحاحاً في طلب الكمال، واكتفى بهيكل عام رائده الولاء لخطّه والنهوض بالحملات الانتخابية، مشفوعاً بالمؤسسات الخيرية والتعليمية، وبالوسائط الاعلامية على اختلافها. غير أن غيابه المفاجئ، واضطلاع وريثه سعد الدين بمسؤولية اكمال المسيرة والنهج، طرح ضرورة الارتقاء في العمل التنظيمي الى مستوى المهمات الملقاة على عاتق حركة جماهيرية عريضة في ظروف مستجدة لا تخلو من عامل العجلة. أبلى سعد في قيادة التيار الى نتائج مشرِّفة في الانتخابات أسفرت عن كتلة نيابية أوسع من سابقاتها، وعن حضور لافت ومؤثر في صلب الأكثرية الخارجية من صناديق الاقتراع. تم ذلك بدفع من وقع مأساة اغتيال والده، ما اصعد تيار المستقبل الى زعامة الطائفة السنية بلا منازع، والى مركز قرار ومبادرة ضمن حلقة الأكثرية ودائرة الحلفاء. لكن التيار ما زال مثقلاً بالتركة، ضعيف الأداء، يفتقر الى عنصر الجماعية على سبيل بلورة المواقف وتخطي وظيفية المستشارين. ليس من المتوقع أو المرجو أن ينقلب تيار المستقبل الى تشكيل شديد اللحمة والبأس، يحظى بتكاوين كاملة وبحياة داخلية تراتبية ضابطة بإحكام. ذلك بعيد المنال عنه، عملاً بطبيعته ومحورية مكانة زعيمه وانبثاق السلطة عن دارته، ورمزيته بالذات. انما يحتمل التيار قدراً من الاصلاح البنيوي يلحظ مزيداً من الدور والمسؤولية للناشطين في المناطق والاحياء، القائمين على نبض ومناخ وواقع القواعد المعيشي، بموازاة طاقم الوجهاء في الخدمة. وله ان يبحث عن شبكة أمان وتواصل جدية ويعمل من أجلها، في صيغة معاونين ذوي كفاءة في السياسة، جديرين في الأداء لا في الوظيفة، وفي تعميم أقنية الايصال والربط الى حد معقول يوسع دائرة المعنيين، حاملي الصفة النظامية، ويشعرهم بالمشاركة في صوغ المواقف على قاعدة الانتماء الأرقى والأفعل من الولاء. ولا يضير التيار ان يلتفت الى خاصية بيئات أنصاره، ويبرز لها محاسن جامع الوطنية والثقة به أميناً على مصالحها وخازناً لأمانيها، على وجه عملي ملموس، عوض الاتكال على الهوية الفئوية والوفاء. ما مدى إيفاء تيار المستقبل راهناً بمواصفات الكيان السياسي؟ يصعب اعطاء اجابة قاطعة قياساً بالأحزاب. ربما ينطبق عليه عنوان العائلة السياسية بمعنى"الحساسية"، والمشترك في المشاعر، المختلفة، في النشأة والنطق الجغرافي، عن الاقطاعة التقليدية المعروفة. ويقف التيار بين بين، برصيد من إفرازات المعاصرة ورؤى الحداثة، يحاول نفض ثوب المحافظة عن مناصريه، ويخفق في إجلاس مواليه على مقاعد ديوانه. نجح التيار في اسباغ التلاوين على لوحة مجتمعه الخاص، وما زال غير قادر على صهره في بوتقة صريحة المضمون الثقافي والتحكم بالدوافع ومأسسة الحراك، أي استيلاد القناعات الراسخة الموحدة بديلاً عن التعاطف ومظاهر الولاء. * كاتب لبناني.