بعض الأرقام ذات الدلالة أولاً: خلال 24 سنة من الحضور في الحياة الأدبية، بدأت في العام 1888، انتجت شخصية طرزان 22 رواية ترجمت الى 56 لغة، من بينها لغة العميان براي، ولغة الاسبرانتو، وطبع من هذه الروايات أكثر من 20 مليون نسخة خلال عدد قليل من السنوات التي كانت تلي صدور كل واحدة من الروايات. وخلال نصف القرن الذي تلا"اكتشاف"الفن السابع لشخصية طرزان ورواياته، حقق 35 فيلماً رسمياً، ناهيك بعشرات الأفلام الأخرى المسروقة والمزورة والمحاكية للروايات المذكورة... أو حتى الساخرة من الشخصية نفسها. ومنذ العام 1929، شغلت شخصية طرزان موقع البطولة في أكثر من 15 ألف حكاية شرائط مصورة، في الولاياتالمتحدة نفسها، نشرت في أكثر من 212 صحيفة يومية، تقول الاحصائيات أن مجموع ما ينشر منها في كل يوم كان معدله يصل الى 15 مليون نسخة. ترى هل ثمة في تاريخ الأدب الشعبي شخصية وصلت الى هذا المجد، الكمي على الأقل؟ هل ثمة، من الشخصيات التي ابتكرتها مخيلات الكتاب، او استعارتها من التاريخ، شخصية عرفت مثل هذا الانتشار؟ أبداً، بالتأكيد. ومع هذا نلاحظ منذ سنوات أن حضور شخصية طرزان قد تقلص الى حد كبير، وأن هذه الشخصية لم تكن من بين المستفيدين الكبار من فورة البرامج التلفزيونية، ولا من ازدهار أفلام المغامرات. وواضح ان جزءاً من السبب يكمن في واقع أن شخصية طرزان كانت وتبقى واحدة من أكثر الشخصيات الخيالية - الروائية، تعرضاً للهجوم، في أزمان الوعي الجديدة التي بدأت مع أواخر سنوات الستين من القرن العشرين، أزمان ما كان في مقدورها أن تحتمل كل ذلك القدر من البعد العنصري الذي تحمله شخصية طرزان ومغامراته في جوهرها. ومع هذا، لن يكون من غير العدل أن نذكر هنا أن مبتدع شخصية طرزان، الكاتب الأميركي ادغار رايس بوروز، لم يكن ليخطر في باله حين رسم ملامح الشخصية وراح يكتب أولى مغامراتها، أنه يغوص في قلب الأدب العنصري، على خطى كيلنغ وغوبينو واضرابهما. بالنسبة اليه لم يكن الأمر أكثر من تطوير لشخصية روبنسن كروز التي فتنت الكتّاب طويلاً، وثمة اشارات عدة تربطها بشخصية حي بن يقظان التي كانت ذات بعد فلسفي لاهوتي في أذهان الكتّاب العرب ابن سينا، ثم ابن طفيل الذين كتبوا عنها. لاحقاً، رواية بعد رواية ومع تقدم الوعي، صار واضحاً أن لاوعياً عنصرياً يقف خلف الشخصية ورواياتها في القرن العشرين، ليصل هذا الوعي الى ذروته مع استشراء حركات تمرد الشبيبة التي لم ترَ في طرزان سوى شخصية بيضاء تنتمي الى نوع السوبرمان وتتفوق على مجموع السود في الغابات الافريقية. وطبعاً لم يشفع الشخصية في هذا السياق، أن الأشرار، كانوا في أحيان كثيرة من البيض الذين كانوا يريدون نهب خيرات السود، لكن"الرجل - القرد"- وهو لقب طرزان منذ الرواية الأولى - كان يتصدى لهم، حماية للسود، غالباً. فالمسألة واضحة: كون طرزان شخصاً أبيض هو ما حسم الأمور... وجعل الروايات كلها تبدو عنصرية وفاشية حتى، وهي، على أي حال، نتيجة لن يفوت أي قارئ لطرزان أن يصل اليها. ولدت شخصية طرزان - وتعني الكلمة، أصلاً، الرجل ذو الجلد الأبيض في العام 1912، حين نشر بوروز أول مغامرة طرزانية في عنوان"طرزان القردة"مع عنوان ثانوي هو"حكاية غرام في الادغال". وفي ذلك الحين كان بوروز في السابعة والثلاثين من عمره، وكان قد عرف سابقاً بغزارة انتاجه ولا سيما في مجال كتابة روايات الخيال العلمي. والحقيقة أن كل كتابات بوروز السابقة كانت تبدو - أو ستبدو لاحقاً على ضوء ما انتجه منذ ذلك الحين وكأنها تمارين في مجال كتابة السلاسل المنتمية الى أكثر الآداب شعبية وجماهيرية. من هنا لن يكون غريباً أن نذكر أنه بدءاً من العام 1912، كتب ونشر تباعاً، ثلاث سلاسل من كتب المغامرات، سلسلة"طرزان سيد الادغال"وسلسلة عن"غزاة الكوكب المريخ"، وأخيراً سلسلة"في باطن الأرض". ولعل من الواضح بالنسبة الينا هنا أن أياً من هذه السلاسل لم يكن مبتكراً، بل كان العمل على كل سلسلة، تطويراً لما كان موجوداً سابقاً في المخيلة الشعبية. فاذا كانت شخصية طرزان تبدو تطويراً لروبنسن كروزو، فإن السلسلتين الأخريين إنما تطوران نتاجات ه.ج. ويلز وجول فيرن، اللذين كان بوروز يعتبرهما استاذيه الكبيرين. هنا لا بد أن نذكر أن مغامرات طرزان، لم تكتف بأن تروي أحداثاً في الادغال، الافريقية غالباً، بل إن هناك من بين روايات طرزان ما ينتمي الى الخيال العلمي، إذ فيها حديث عن حضارات اضمحلت واختفت، وفي بعضها وصول الى حقبات ما قبل التاريخ، ودخول في قلب مناطق نسيها الزمن. غير أن القاسم المشترك دائماً، كان ذلك التفوق للرجل الأبيض الذي كان في الأصل طفلاً ضاع في الادغال التي كان يزورها والداه، فحضنته قردة أرضعته وربته ليشب بطلاً قوياً، يمسك ميزان العدل بين يديه. وعلى رغم أن ثمة، في الأسواق، وطوال القرن العشرين، عشرات بل مئات الكتب التي تجعل من طرزان شخصيتها الرئيسة، فإن بوروز لم يكتب سوى 24 رواية طرزانية، صدرت الطبعة الأولى من آخرها وعنوانها"طرزان والباقون وحدهم"في العام 1940. وطبعاً ليس المجال هنا كافياً لذكر كل روايات بوروز في هذا السياق، ولا حتى لوضع لائحة بالكتاب الآخرين، وغالبيتهم أميركيون، استعاروا"الشخصية ليكتبوا من حولها عشرات الكتب، ومن بين هؤلاء بارتون وربر وفريتز ليبر، ولا سيما فيليب فارمر، الذي كتب ما يشبه سيرة لطرزان، تبدو معها الشخصية وكأنها وجدت وعاشت حقاً. وعنوان هذا الكتاب هو"طرزان حياً". وفيه"يؤكد"فارمر أن للبطل اسماً حقيقياً هو"لورد غريستوك". والطريف أن ثمة، من المصادر التي تتحدث عن طرزان، من يؤكد أنه اذا كانت كتب طرزان ومغامراته قد زورت كثيراً في عدد كبير من البلدان، فإنها زُوّرت أكثر ما زُوّرت في عدد من البلدان العربية وكذلك في اسرائيل... حيث جرت عادة بعض كبار الكتاب الشعبيين أن يبدأوا حياتهم المهنية بابتكار مغامرات طرزانية جديدة، ما جعل الشخصية شديدة الشعبية، وجعل اسمها جزءاً من لغة الحياة اليومية، الى درجة أن ثمة مغامرات عدة بطلها طرزان يهودي، له من القوة والجبروت، والوفاء لأصله ودينه، ما جعله يحارب دائماً في صفوف القوات الاسرائيلية ضد... المعتدين العرب! غير أن هذا كله سرعان ما اختفى بدوره، مع فورة السبعينات التي راحت تركز، هناك أيضاً، على عنصرية الشخصية! طبعاً، هذا الاستخدام كله لشخصية طرزان الخيالية، لم يكن في ذهن ادغار رايس بوروز 1875 - 1950 حين بدأ كتابة سلسلته. لكنه كان يعرف، على الأقل، أن، لذلك الابتكار، كل مقومات النجاح، هو الذي امتهن كتابة الأدب الشعبي باكراً في حياته. فبوروز الذي ولد في شيكاغو، اتجه الى الكتابة بعد أن اخفق في امتحاناته في كلية ويست بونيت العسكرية حيث أن رغبته كانت، أولاً، الانخراط في السلك العسكري. وكان لاخفاقه أثر كبير في اتجاهه الى كتابة روايات المغامرات التي يبدو معظمها وكأنه ترجمة لخطط عسكرية هجومية ودفاعية. وهو على أي حال، وعلى عادة الأدباء الأميركيين، مارس مهناً عدة قبل أن يشرع في تجربة حظه مع الكتابة. وكان ذلك أثر سنوات عدة كان فيها من الفراغ بحيث راح يمضي وقته كله في القراءة. وهكذا حين كتب نصوصه الأولى - قصصاً قصيرة - كان مزوداً بترسانة هائلة من الأدب الشعبي. وهو أمضى نحو نصف قرن في حياته يكتب ويكتب حتى جمع ثروة ندر أن جمعها في زمنه أي كاتب آخر.