تتيح ابحاث الندوة التي نظمها المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في حلب حول فكر الامام محمد عبده عام 2005 والصادرة حديثاً بعنوان"حداثات اسلامية"المجال للكشف عن الكيفيات القرائية الاسلامية المعاصرة لجهد الحداثة والتغيير الإسلامي، الذي كان يرى أن المشكلة في ديار المسلمين ليست في الاسلام المنفتح الواسع الصدر والقادر على تقبل العلم، بقدر ما تجلت في فهم المسلمين لمعنى التوكل والقدر وميلهم للكسل والقعود، فالمسلم بحسب الإمام محمد عبده:"وكل الأمر إلى الحوادث تصرفه حيث تهب ريحها". لم تكن مئوية محمد عبده تمر من دون تذكره، فقد فاض الشارع العربي في العامين الأخيرين بتذكر رموزه الثقافية التجديدية امثال محمد عبده ومالك بن نبي وابن خلدون والكواكبي، وفي هذا السلوك القرائي يقفز السؤال دوماً ما الجديد؟ وما جدوى الاستعادة والتذكر؟ هذا ما تجيب عليه ندوة الامام محمد عبده التي التزمت خطاً علمياً يبدو جاداً من خلال الابحاث الصادرة في حداثات اسلامية. يكتب الشيخ علاء الدين زعتري عن خصوصية الإمام محمد عبده الإصلاحية في المسيرة الحضارية وعن سرديات الإصلاح والاحياء وخبرة الأمة ويرى أن المصلح يستمد من ماضيه قوة التجربة وأصالة الفكرة وعملية الخبرة ويعرف عن حاضره حقيقة التصور وصدق الواقع، وهو يرى أن نصيب محمد عبده في كونه أوتي نصيباً وحظاً من سمو النفس وتوقد الذكاء ودقة الملاحظة، ويناقش الزعتري الامام في جهده التفسيري من خلال الصلة بين العلم والدين ومواضيع إصلاحه ومجمل رسالته والمنهج الإصلاحي الذي قام به عبده. ويعرض احمد برقاوي لسؤال الحكم عند الامام وذلك من باب حضور هذا السؤال في المشهد الراهن، ومن باب الأزمة التي تشهدها المنطقة العربية اليوم في أمر الحكم، ويرى برقاوي أنه لا يمكن عزل أي اطروحة دنيوية اصلاحية عن باب العقل عند محمد عبده، وذلك لانه من دون معنى العقل لا معنى لأي فكرة في علاقتها بالواقع. ويسأل برقاوي بعد ان يجول في فكر عبده هل كان الرجل علمانياً؟ ويجيب: نعم. فهو يرى أن عبده يستخدم مفهوم العلمانية مباشرة بمعنى فصل الدين عن الدولة وفي إطار من المساواة بين الناس وعدم التمييز بينهم، فعبده مع قلب السلطة الدينية ومع اختيار الأمة او نائب الامة لحاكمها ومع قيام مجلس برلماني يسن قوانين وضعية ومع الفصل بين السلطات ومع المساواة بين الناس بمعزل عن الدين. يتوقف احميدة النيفر عند قراءة الجهود الإصلاحية العربية والإسلامية، ويميز بين اتجاهين وهما إما التوظيف القسري لجهود تلك المدرسة الإصلاحية او الاقتصار على نوع من الاستعراض السردي المشوب بقدر من التجديد، ويرى أن ثمة رابطاً بين الطرفين، وهذا الرابط يُبرز خيط الإدانة الصامته التي انخرط فيها دعاة الأصالة الساعون إلى بناء جديد قائم على مقولة الصفحة البيضاء التي لا تسعى لأي ارتباط بالمدرسة الإصلاحية. وضمن هذا الرأي يتناول النيفر تحديات الحاضر واسئلة الماضي المؤسسة والنص، ويبدو النيفر موجعاً بالمعالجة المعاصرة لفكر الإصلاح وهي معالجات ميزتها الاستخفاف بالجهود الإصلاحية، وهي في رأيه لا تعبأ برسم حركة الأفكار في البلاد العربية ولا تعتمد رؤية تاريخية نقدية تتمكن من ضبط الإضافات الجزئية او النوعية لكل مرحلة. وانطلاقاً من هذا التوصيف للقراءة المعاصرة لفكر الإصلاح يسائل النيفر الشيخ الإمام في محاضرته التي ألقاها في تونس سنة 1903 والتي تناول فيها جملة من الآيات المتخصصة في أمر العلم، وهي برأيه يمكن ان تكشف عن رأي عبده في التعليم. ويمكن لهذه المقاربة ان تصلنا بجهود محمد عبده التأويلية ضمن سيرورة التساؤلات الحديثة. في دراسة خطاب الإصلاحية من التفسير النصي إلى التأويل المقاصدي، يرى عبدالرحمن الحاج أن ثمة مشكلة حقيقية في فهم خطاب الإصلاح الديني في الفكر العربي، الديني والحداثي على السواء. ويقرر أن الخطاب الإصلاحي الديني في مجمله هو عودة إلى الابدية بتعبير"ميرسيا إلياد"، أو بتعبير إسلامي مقابل الصلاحية لكل زمان ومكان، والحديث عن التأويل يستلزم الحديث عن المقاصد، وفي هذه القراءة يضع الحاج زمانية الخطاب في ظل توارث الفكر او تزامنه وهو ما ظهر في خطاب رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي، إذاً هو خطاب نهضة في الدرجة الأولى. وهذا الخطاب له سياقة وله مرجعيته في زمن كان فيه الغرب متمدناً والشرق يبحث عن ولوج ابواب التحديث، في ذاك الزمن ولدت الإصلاحية وولد خطابها، وهي ولادة في لحظة الانبهار بالآخر، وهي تجلت في كتاب محمد عبده"الإسلام والنصرانية". يبحث رضوان زيادة عن إجابة لسؤال الحادثة والإسلام، وعن امكان تحصلها، انطلاقاً من رؤية عبده للإسلام الذي ينطوي على بذور الدين العقلي والعلم الاجتماعي والقانون الخلقي، فالدين عنده هو الحافز الرئيس للعمل وهو مصدر للوحدة والتعاضد، وسند التطور، والإصلاح عند عبده - برأي زيادة - يرتكز إلى تجربة الإصلاح البروتستانتي. ولكن تحدي إصلاح عبده لم يكن في المناخات الفكرية السائدة بقدر ما كان في بنية الثقافة وتكوين المعرفة السائدة. تتواصل القراءة المقارنة لفكر عبده الإصلاحي في ورقة احمد محمد سالم، الذي يتساءل عن كيفية خروج جيل من المتنورين المصريين من تحت عباءة محمد عبده، والذي يقرأ التجربة في زمن شهد نموذجين من المعرفة، معرفة تقليدية متصلة بالماضي، ومعرفة حادثة بفعل الاصطدام بالمشروع الغربي، ووسط ذاك المشهد كان انبلاج فكر محمد عبده، وغيره من المتنورين والتجديديين أمثال رشيد رضا وأحمد لطفي السيد وصولاً إلى أمين الخولي. بعد مقاربة منضبطة ودقيقة يخلص الخولي إلى أن محمد عبده أرسى مجموعة من القواعد والمبادئ الإصلاحية المهمة، منها وأهمها أولية العقل، ونقد الجمود والتقليد، وقلب السلطة الدينية والمناداة بسلطة مدنية عقلانية والاخذ بالنظام السببي. ويرى ان امين الخولي تأثر باستاذه عبده في تقديمه قراءة اجتماعية للإسلام تراعي مستجدات العصر، وانه كان أكثر جرأة من استاذه الإمام في إدانته للنظام الثيوقراطي، وهو يرى ان خطاب عبده خضع لضغوط المحافظين من ناحية والمستشرقين من ناحية اخرى، كما أن الشيخ والتلميذ تأثرا بفكر المعتزلة وحمل خطاب الرجلين هاجس التعلم والتجديد. وتستوقف فتاوى عبده الجريئة الباحث عبد الجبار الرفاعي، الذي يسعى إلى مقاربة بين محمد عبده ومحمد اقبال، ويرى أن فتاوى عبده في جواز إيداع المال وأخذ الفائدة وحِلِّية ذبائح أهل الكتاب وجواز ارتداء ملابسهم، وهو يُؤول الجن في القرآن إلى الميكروبات، كما نزع نزعة داروينية حين تحدث عن تنازع البقاء، وأن البقاء للأصلح، ويرى الرفاعي أن تحديث عبده توقف عند المسائل الفقهية والتفسيرية من دون مساس بالقضايا الإيمانية النظرية الداخلية في نطاق علم العقائد، أو علم الكلام. ويبدو عبده، بحسب الرفاعي، يُمثِّل محاولة علمية جادة لاسترداد المدلول الروحي للدين وإعادة المضمون التطهيري الباطني للتدين. يتساءل الرفاعي عن مصير رؤية محمد اقبال ومحمد عبده؟ ويرى أن رؤية الأول امتدت عبر آراء المفكر الباكستاني فضل الرحمن، ومن بعد وفاة الأخير اضمحلت الرؤى الإقبالية في الباكستان بينما اعيد انتاجها في ايران في النصف الثاني من القرن العشرين، وهذا ما تبلور في آراء المفكر الإيراني عبد الكريم سروش. أما محمد عبده فورث افكاره أولاً رشيد رضا، ثم حسن البنا ثم سيد قطب الذي اخذ من ابي الأعلى المودودي رؤيته لمبدأ الحاكمية الإلهية. تأخذ"روحنة الإسلام"نصيبها في دراسة عبدالرزاق عيد عن الدين والتصوف في حياة محمد عبده الذي تلقى نواة الثقافة الصوفية على يد خاله درويش، واستمر تأثير الصوفية في حياة الإمام، وهو الذي يكتب في رسالة منه إلى تلميذه رشيد رضا يقول فيها:"إنه لم يوجد في أمة من الأمم من يضاهي الصوفية في علم الأخلاق وبتربية النفوس". ويناقش عيد ما دار عن محمد عبده ومحمد اقبال في دراسة عطية سليمان ابو عذره حول مشكلتي الوجود والمعرفة في الفكر الإسلامي. وفيما يمضي يوسف سلامة في دراسة بحث القراءة الإسلامية لليبرالية في نموذج الشيخ يوسف القرضاوي الذي لا يرفض الليبرالية وحسب، بل يزيد رفضه وضوحاً - بحسب سلامة - عندما يتصور أن الشرقيين بجملتهم لا يناسبهم إلا التفكير الديني. يقارب ماهر الشريف بين محمد عبده والشيخ عبدالله عزام في باب الاجتهاد، وهو يرى ان فهم عبده للجهاد كان واسعاً انتهى إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس وهذا ما ميز فهم الإصلاحية الإسلامية لمبدأ الجهاد، في حين يذهب أنصار الإسلام السياسي إلى أن الجهاد هو الوسيلة لتحقيق نظام حكم اسلامي ودولة يحكمها القرآن. ويقرأ نصر حامد ابو زيد في النص القرآني من خلال مقولة الناطق والصامت والتلاعب، وتوجيه النص والقرآن بوصفه خطاباً والحوار والسجال في القرآن، سواء كان مع المسلمين او المسيحيين او اليهود، وهناك الحوار التفاوضي، ويخلص إلى أن السياق الحالي المعروف بالاسلام فوبيا في الغرب وما تبعه من احداث تسبب في تشويه الإسلام بوصفه راديكالياً إرهابياً إقصائياً. نهاية الدراسات العربية في هذا الكتاب هي لعبد المجيد الشرفي بعنوان:"الثالوث الصعب: الإسلام والحداثة والعلمانية"، ويخلص فيه الباحث إلى ان الفكر الإسلامي المعاصر يواجه قضايا هزيلة الصلة بالقضايا التي كان الفكر الإصلاحي زمن الشيخ محمد عبده يجد لها حلولاً مرضية، ولعل السمة البارزة في تلك القضايا أنها كانت مشتركة بين المؤمنين بالديانات التوحيدية. وفي الكتاب دراسات بالفرنسية والانكليزية على درجة من الأهمية لكل من بيير جان، ودلال حمزة وكاترين جون وغيرهم. * استاذ التاريخ والحضارة في جامعة فيلادلفيا الأردنية