لا تقتصر دلالات الأزمة التركية الراهنة وتداعياتها على تركيا وحدها بل تشمل سائر المجتمعات العربية والإسلامية. ففي تركيا ومنذ خمس سنوات تمكن"حزب العدالة والتنمية"ذو الأصول الإسلامية من الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، ومثلت هذه التجربة اختبارا على المستوى الدولي لإمكان تعايش الإسلام السياسي المعتدل مع الديموقراطية. وجاءت نتائج التجربة مشجعة على أكثر من صعيد. فلم يحافظ هذا الحزب على المكاسب التحررية للمجتمع التركي وحسب وإنما وسعها لتطال الإصلاحات مختلف المؤسسات وتشمل حقوق الأقليات، كل ذلك على خلفية مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي التي قادتها حكومة رجب طيب أردوغان. كان الجيش، معقل العلمانية التركية، يراقب التجربة على مضض خاصة أن من شروط التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي ابتعاد الجيش عن المشهد السياسي لمصلحة القوى المدنية. أما على المستوى الاقتصادي فكانت النتائج باهرة إذ حققت تركيا خلال هذه المدة نموا اقتصاديا بلغ 7 في المئة سنويا واستقطبت من الاستثمارات الأجنبية المباشرة 50 بليون دولار في غضون السنوات الثلاث الماضية. ويعزى هذا النمو إلى بروز طبقة وسطى ذات أصول ريفية تتقد حيوية وتشكل قاعدة اجتماعية ل"حزب العدالة والتنمية"الحاكم. وبحلول الاستحقاق الرئاسي هذا الشهر ثارت أزمة من جديد بين المؤسسة العسكرية و"حزب العدالة والتنمية"، وقبل ترشيح رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان لهذا المنصب أصدر قائد الجيش تحذيرا مفاده أن المؤسسة العسكرية تحتفظ لنفسها بحق التدخل في الحياة السياسية إذا تعرضت القيم العلمانية للتهديد. وتأييدا لموقف الجيش وبدعم منه نظمت القوى العلمانية مظاهرات ضخمة للاحتجاج على ترشيح أردوغان، فيما استنكر الاتحاد الأوروبي وبعض القوى العلمانية تصريح الجيش. ولتخفيف حدة التوتر أعلن أردوغان أنه لا ينوي تقديم ترشيحه للرئاسة. وبالتوازي مع هذا الإعلان رشح"حزب العدالة والتنمية"وزير الخارجية عبدالله غل لهذا المنصب. وقاطعت الأحزاب العلمانية جلسة الانتخاب ما حال دون تأمين النصاب القانوني وتأجل الانتخاب إلى جلسة ثانية لم يتوافر فيها النصاب ايضاً. وكانت المحكمة الدستورية ذات التوجه العلماني ألغت في هذه الأثناء انتخابات الدورة الأولى ما حدا بغل إلى سحب ترشيحه، فيما أعلن رئيس الحكومة أردوغان عن تقديم موعد الانتخابات العامة من تشرين الثاني نوفمبر القادم إلى تموز يوليو كما أعلن عزمه تعديل الدستور كي يتم انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب. وإذا علمنا أن جميع استطلاعات الرأي تعطي غالبية واسعة ل"حزب العدالة والتنمية"فيما تجد الأحزاب العلمانية المنقسمة صعوبة كبرى لبلوغ عتبة العشرة في المئة من الأصوات، يمكن القول إن الأزمة لم تحل وإنما تم ترحيلها إلى الانتخابات مع ما يمكن أن تفتح عليه من مجهول، طارحة السؤال الكبير: هل يقبل العلمانيون بنتائج صناديق الاقتراع أم يعمدون إلى القوة لفرض ما يعتقدون بأنه الصواب؟ السؤال نفسه، وإن في ظروف مغايرة، عرفته التجربة الانتخابية الفلسطينية الأخيرة، فقد جرت انتخابات نزيهة تحت الاحتلال وأفرزت غالبية برلمانية لصالح حركة"حماس". وشهد العالم بأسره على شفافية هذه الانتخابات. لكن المجتمع الدولي لم يقبل بهذه النتائج وفرض حصاراً مالياً على الحكومة الجديدة بدعوى أنها لا تقبل بوجود إسرائيل ولا بالاتفاقات المبرمة معها. ولو اقتصر الحصار على قطع المعونات الأوروبية والأميركية عن هذه الحكومة لهان الأمر، لكنه تجاوز هذا الحد إلى ملاحقة كل دولة أو مؤسسة مالية تمد لها يد العون. لا بل بلغ الأمر حد ملاحقة أعضاء هذه الحكومة المنتخبة في المطارات. الإشكال نفسه تطرحه الانتخابات المغربية المقررة في الخريف المقبل. ففي هذا البلد أيضا تعطي استطلاعات الرأي الغالبية لحزب العدالة والتنمية الذي اعتمد تسمية الحزب التركي نفسها وشعاره القنديل ولا يخفي إعجابه بتجربته. وفي المغرب أجمعت كل مكونات الحركة السياسية على القبول بالملكية الدستورية إطارا للعملية السياسية. وكان قبول حزب العدالة والتنمية بهذا المبدأ سببا لإدماجه التدرجي في الحياة الدستورية منذ التسعينات، خلافا لحركة العدل والإحسان الأصولية التي تفوقه انتشارا في الأوساط الشعبية لكنها ترفض التسليم بصفة الملك ك"أمير للمؤمنين"من دون أن يقودها ذلك إلى المواجهة العنيفة معه. يتهيأ المغرب إذاً إلى منافسة انتخابية في إطار مسار ديموقراطي حقيقي، وهي تطرح منذ الآن سؤالا محيرا على جميع المغاربة وعلى المراقبين الأجانب على حد سواء: هل سيعين الملك رئيس الحكومة المقبل من بين الغالبية البرلمانية كما وعد بذلك أم أنه سيتراجع عن وعده، مع ما يمكن أن يعنيه التراجع من أزمة دستورية تهدد بإجهاض المسار الديموقراطي برمته وفتح أبواب المستقبل على المجهول؟ أم أن الملك سيمضي قدما في عملية الانتقال إلى الديموقراطية فيقبل بنتائج الانتخابات ويوسع أيضا من صلاحيات الحكومة بما يفتح الباب أمام تجربة من طراز تركي على أرضه؟ وماذا يكون موقف النخب العلمانية وهي التي بنت برامجها على التصدي لظاهرة الإسلام السياسي؟ هذه الأسئلة لا تخص المغرب أو تركيا أو فلسطين وحدها بل تلخص السؤال الأكبر المطروح على المجتمعات العربية والإسلامية كافة المتطلعة إلى الإصلاح والمتأهبة لدخول عصر الديموقراطية الحديثة: ما هو موقع الإسلام السياسي من العملية الديموقراطية، الإدماج أم الاستئصال؟ وما هي علاقة الدولة والدين في المجتمعات الإسلامية، الفصل أم التطوير والتحديث؟ لا يمكن لأحد أن يدعي امتلاك الحقيقة في هذا المجال والتجربة التاريخية وحدها قادرة على الجواب عن هذه الأسئلة. لكن من شروط هذه التجربة ومقتضياتها أن تتناول النخب المعنية بقيادة التغيير هذا الموضوع بالنقاش وبالجدية والمسؤولية اللازمتين. ومما لا يمكن للمرء أن يتجاهله في هذا السياق ما تحقق من تطور في فكر الأحزاب الإسلامية. فهذه الأحزاب كفت عن اعتبار نفسها أحزابا دينية، لتعرف نفسها بأنها"أحزاب سياسية ذات مرجعية دينية"أي أنها تستوحي برامجها السياسية والاجتماعية من الدين ومقاصده وتعتبرها اجتهادا إنسانيا يسعى لتلبية حاجة المواطنين، تعرضه عليهم ليختاروه عن طواعية أو يعرضون عنه من دون إكراه. وشمل هذا التطور المعلن العديد من الحركات ومنها حزب"العدالة والتنمية"في كل من المغرب وتركيا وحركة"النهضة"في تونس وحتى حركة"الإخوان المسلمين"في مصر. ومن المؤسف حقا أن تسارع السلطات المصرية بمناسبة التعديل الدستوري الأخير، وفي محاولة منها لقطع الطريق على هذا التطور، إلى منع تأسيس الأحزاب ذات المرجعية الدينية وإدراج ذلك في الدستور. أما التطور الحاسم الثاني فهو قبول هذه الحركات بالديموقراطية كآلية للحكم في المجتمعات الإسلامية الحديثة. وبهذا القبول تكون هذه الحركات حلت المعضلة التي ظلت تواجهها منذ تأسيسها والمتمثلة في ما بدا لها من تعارض بين مقولة"الحاكمية لله"التي طورها المؤسسون سيد قطب، المودودي الخ... وبين حكم الشعب الذي تقوم عليه الديموقراطية الحديثة، فاعتبرت أن حكم الله في الأرض لا يمكن أن يقوم إلا على أيدي البشر ومن خلال اجتهادهم الذي لا يكتسي أي صبغة قدسية. فالديموقراطية بهذا المعنى يمكن أن تقدم، في نظرهم، الإطار الذي يتيح للمسلمين اختيار ما يرونه من اجتهادات توفق بين سعادتهم الدنيوية وسعادتهم في الآخرة. ومع هذا التطور بدأ الإسلام السياسي يراجع، وإن بدرجات مختلفة، نظرته إلى قضايا أساسية كمصدر التشريع المؤسسة البرلمانية وحرية المعتقد الردة وحقوق المواطنة الذمة والعنف جهاد الردة كل ذلك في اتجاه المصالحة بين مقاصد الشريعة الإسلامية والمبادئ الإنسانية الحديثة. هل يعني هذا التطور أن الحركات الإسلامية تحولت إلى حركات ديموقراطية بالكامل وأن الخوف من الشمولية الدينية على الحريات الحديثة قد زال؟ من المجازفة ادعاء ذلك وكل ما ندعيه أن هذا المسار انطلق وأخذ أشواطا متفاوتة حسب البلدان وأن الديموقراطية تقتضي دفع هذا الاتجاه وتشجيعه عن طريق الحوار وفتح العملية السياسية في وجهه. ولعل تجربة 18 تشربن الأول أكتوبر 2005 في تونس قدمت مساهمة على الساحة الإسلامية في هذا المجال، إذ أنها وفقت بين وحدة عمل ميدانية جمعت ألوان الطيف السياسي المختلفة من أجل الحريات الأساسية، وبين فتح حوار شفاف وعلني حول قضايا الخلاف العالقة بين مكونات الإئتلاف من أجل الوصول إلى صياغة"عهد ديموقراطي"يرسي الديموقراطية على قاعدتها التحررية المتمثلة في حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. أما على الصعيد العملي فلا ينكر سوى جاحد أن تجربة الإسلام السياسي في الحكم تركيا، فلسطين... جاءت مشجعة وقدمت نموذجا لممارسة ديموقراطية لا تقبل المقارنة مع باقي تجارب الحكم في عالمنا الإسلامي والتي اتخذت دوما من"البعبع الإسلامي"ذريعة للالتفاف على الديموقراطية وإبقاء شعوبها في حال من التخلف والاستبداد. بهذا المعنى تشير التجربة التركية إلى أن الديموقراطية الحديثة لا تتهددها"الأصولية الإسلامية"وحسب وإنما هي عرضة لتهديد"الأصولية العلمانية"أيضا، إذ أن كليهما ينطلق من قناعة ذاتية أيديولوجية بأنه ينطق باسم الحقيقة المطلقة. وإذا كانت الأصولية الإسلامية تستمد فلسفتها من تقديس التاريخ الإسلامي السلف الصالح فإن انتقال شرائح مهمة من الايديولوجية البولشفية في العلاقة مع الدين ومع المواطن إلى ايديولوجيا العلمانية الراديكالية الفرنسية، من دون نقد ذاتي جدي، جعلها تستبدل مقدسا يبيح الاستبداد باسم الحرية بمقدس جديد كي تحاكم من خلاله التاريخ والثقافات البشرية الأخرى وتقيم باسمه تعاملا مع الآخر أساسه التعالي والغرور والوصاية إن لم نقل التكفير الذي يستبيح العنف ويبرر مرة أخرى الاستبداد باسم الحرية. * سياسي ومحام تونسي