يعاني لبنان منذ تكوينه انقساماً طائفياً بغيضاً نتيجة عدم اقامة دولة على اسس ديموقراطية صحيحة ما سمح لزعماء الطوائف بالتحكم في الإدارة والسيطرة على مقدراتها. وتعرض القرار الوطني منذ نشأة الكيان الى الاستباحة نتيجة التدخلات الخارجية من المندوبين السامين في عهد الانتداب والسفراء في عصر الاستقلال وقادة الاجهزة الامنية السورية في زمن الوصاية، وكان لالتحاق زعماء الطوائف بالقوى الخارجية واستقوائهم بها لتثبيت مواقعهم وتأمين مصالحهم أثره في ارتهان القرار الوطني. واكتشف اللبنانيون بعد عقود من الاستقلال مدى هزالة الدولة وهشاشة نظامها وضعف تركيبتها. وثاروا بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري في انتفاضة كبيرة مطالبين باسترداد حريتهم وسيادة وطنهم، وأوشكت"انتفاضة الاستقلال"على تحقيق أهدافها التحررية لولا حنين بعض القيادات الى الأحضان الأجنبية بذريعة الانتماء المذهبي والتلاحم القومي. وبدلاً من ان يلتف القادة اللبنانيون حول الثوابت الوطنية ويتعاونوا على بناء وطنهم وتحديثه وانقاذه من الديون المتراكمة وترسيخ العيش المشترك بين ابنائه، اذا ببعضهم يعتبر الانتماء الى المحيط الاوسع اهم من الانتماء الى الوطن، والدفاع عن الملف النووي الايراني اولى من الدفاع عن سيادة الوطن واستقلاله، والتحالف مع دمشق أجدى وأنفع من التحالف مع الشريحة الكبرى من اللبنانيين. وتحول الصراع السياسي الى صراع وطني يتمحور حول هوية لبنان ودوره، فالشريحة الكبرى من اللبنانيين تريده وطناً سيداً حراً ومستقلاً يدعم القضايا العربية من دون المس باستقراره ووحدة أراضيه وشعبه. والشريحة الأخرى تريده مساحة للصراع وتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية، ومركزاً لتمدد النفوذ الإيراني والضغوط السورية من اجل استرجاع الجولان المحتل. وتطور الصراع السياسي في لبنان الى صراع طائفي ومذهبي بفضل خطابات الزعماء التحريضية، فالتفت الطوائف حول قادتها خوفاً من التهميش والاندثار، وبات الالتفاف في بعض أوجهه واجباً دينياً حتى ان البعض وضعه في موقع التكليف الشرعي وتعريض المتخلفين عنه للعقاب الإلهي. ارتكبت القيادات السياسية التي حكمت لبنان منذ الاستقلال خطأ كبيراً باعتماد الديموقراطية التوافقية منهجاً وطريقاً في الحكم، ما ادى الى قيام دولة"المزرعة"يتناهش خيراتها زعماء الطوائف. ويفسر بعضهم الديموقراطية التوافقية بحسب مصالحه وأهوائه. ونجا لبنان منذ ايام من تداعيات جريمة خطيرة كادت تؤدي الى فتنة طائفية ومذهبية لولا وعي القيادات السياسية وفي مقدمها النائب وليد جنبلاط، وكانت جريمة خطف"الزيادين"وتصفيتهما جسدياً محبوكة بطريقة ذكية لإثارة النعرات الطائفية والفتن المذهبية، ما يضع علامات استفهام كبيرة حول دور بعض الأجهزة الأمنية غير اللبنانية في التحريض لارتكاب تلك الجريمة، من اجل اشعال الفتنة الداخلية وردع مجلس الأمن الدولي عن اقرار المحكمة الدولية خوفاً من اتساع نطاق الفتنة وتحولها الى حرب اهلية. وفي خضم تلك الأيام المقلقة التي عاشها اللبنانيون صدر عن الرئيس السنيورة موقف لافت بالدعوة الى تأليف حكومة وحدة وطنية من 17 وزيراً للأكثرية و13 وزيراً للمعارضة، على ان يتضمن برنامج الحكومة الجديدة تنفيذ البنود ال7، والقرارات التي اتخذت في مؤتمر الحوار الوطني. وقبل ان ترد المعارضة على دعوة الرئيس السنيورة، انبرت دمشق لتعلن عبر صحيفة"تشرين"في 27/4 ان الدعوة التي اطلقها السنيورة لاقامة حكومة وحدة وطنية"غير جادة وانما هي ذر للرماد في العيون"وأن"ممارسات حكومة السنيورة وافعالها في الآونة الاخيرة تلحق الاذى بمصالح المواطنين"وان"كل هذه السياسات تكشف حقيقة هذه الحكومة الفاقدة للشرعية"، ويعتبر هذا التعليق تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية اللبنانية وتحريضاً واضحاً من دمشق لحلفائها في لبنان لرفض مبادرة رئيس الحكومة اللبنانية الوفاقية. وبينما يعمل خبراء من الأممالمتحدة على ايجاد صيغة قانونية لتنفيذ البند المتعلق بانسحاب اسرائيل من مزارع شبعا ووضعها في عهدة الأممالمتحدة، قبل اعادتها الى لبنان بعد ترسيم الحدود بينه وبين سورية، أعلنت المعارضة رفضها للحل المقترح وهاجمت رئيس الحكومة بذريعة تخليه عن المزارع، ويتقاطع موقفها مع موقف دمشق الداعي الى ربط المزارع بالقرار 242 والرافض لترسيم الحدود بين البلدين قبل تحرير الجولان. ويشهد لبنان في شهر ايار مايو تطورات مهمة منها ما يتعلق بإنشاء المحكمة الدولية تحت الفصل السابع بعد فشل مهمة مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية نيكولا ميشال في لبنان وتعذر اقرار نظامها في المؤسسات الدستورية اللبنانية، ومنها ما يتعلق بانتخابات رئاسة الجمهورية، حيث بدأت المعارضة خوضها بأسلوب التهديد والوعيد الذي عبّر عنه خير تعبير نائب الأمين العام لپ"حزب الله"الشيخ نعيم قاسم عندما قال:"ان أي رئيس تختاره الاغلبية سنتعامل معه كمحتل لرئاسة البلاد وكمنتحل صفة ومغتصب سلطة وخائن للدستور وسنحوله الى المحاكمة"، ما يعني ان قاموس"حزب الله"يحدد وحده مفاهيم الدستور. فهل يشهد لبنان صيفاً لاهباً أو خريفاً محترقاً، أم يعود اللبنانيون إلى رشدهم ووعيهم ويتصرفوا بحكمة ودراية لإنقاذ وطنهم وفصل قضاياه عن قضايا المنطقة المشتعلة؟ * كاتب لبناني.