أود منذ البداية أن أُنحّي ما يمكن أن يثيره هذا العنوان المثير من توقعات لا أقصدها. وكي لا يقال: اذا كنتَ لا تريد الإثارة فلماذا اخترت هذا العنوان؟! اجيب:"إنني أعتقد أن مضمونه صحيح تماماً في الشكل الذي سأوضحه، وليس بما تقتضيه مفردات اللغة! فأنا لا أقصد ان التوتر الحالي بين العلمانيين والإسلاميين سيجلب إما الخلاص أو الاضطراب، بل إن الخيار هو بين تركيا الدولة ذات النظام الشرقي العادي، والمنفتح بحدود، أو تركيا الدولة النموذج في العالم الإسلامي، وفي منطقة الشرق الأوسط على الخصوص. وصل الإسلاميون المعتدلون الأتراك الى الأكثرية البرلمانية، والى تشكيل الحكومة الحالية بعد آلام وشدائد قاربت العقدين. وقد تغيرت أسماء تنظيماتهم الحزبية خمس مرات على الأقل، بعد ان غيّروا جلدهم بالفعل، وليس بالقول وحسْب. وكانوا قد أصروا، ولمدة عشر سنوات على"تزعيم"نجم الدين أربكان، ووصل بالفعل الى رئاسة الحكومة أواخر عام 1995، لكن الجيش هدده وارغمه على التنحي عام 1997، أو مواجهة انقلاب كالانقلابات السابقة في ما بين الستينات والثمانينات. ولذلك فإن"حزب العدالة والتنمية"الذي تكوّن بالتدرج بعد العام 1998 ما احتفظ بالفعل الا بالرمز الضروري في أي حزب عقائدي، ومن أجل الجمهور، وليس بالبنية أو الشخصيات المعروفة منذ ايام أوزال وأربكان. وأكبر توفيق ناله الحزب الجديد: القيادة الكارزماتية لرجب طيب أردوغان، الذي لم يطرح مطالب تغييرية كبرى، باستثناء الاصرار على حق النساء في ارتداء غطاء الرأس في المجالات العامة والرسمية. القيادة الكارزماتية نصّبت رمزاً مناظراً ومناقضاً ليس للسياسيين العلمانيين الأتراك من عسكريين ومدنيين فقط، بل ولمصطفى كمال أتاتورك نفسه مؤسس الجمهورية العلمانية. والحجاب الذي ظل مطلباً ما أمكن تحقيقه بالكامل، مثّل اللغة السرية الحميمة والعلنية في الوقت نفسه، بين الحزب والجمهور المتدين في الأرياف والمدن! وحققت حكومة أردوغان نجاحات كبرى في الداخل، بالازدهار الاقتصادي البارز، وبالنظافة المقبولة، وبالاستقرار الذي ما عرفت الحياة السياسية التركية مثيلاً له في طوله وراحته لأكثر من عقدين. بيد أنني أكاد أجزم ان تلك النجاحات الداخلية، ما كانت هي وحدها التي حسمت الأمر لصالحه بالداخل على الخصوص، وبالخارج الأوروبي والأميركي، والشرق أوسطي. ولننظر في"الإصلاحات"التي أدخلها أردوغان في النظام التركي، ولنبدأ بالاقتصاد. فقد مضت حكومة أردوغان باتجاه تحرير الاقتصاد، الذي كان اقتصاداً شبه موجه، ومليئاً بالعقبات والعراقيل والفساد والمحسوبية واضطراب النقد، دونما قدرة على تحقيق نمو معتبر. وقد لقيت تلك التغييرات ترحيباً في الخارج قبل الداخل، وشجعت استثمارات كبرى خارجية وداخلية، بحيث جرى وبالنموّ المضطرد والسريع، تجاوز الآثار والتضخم لانطلاقة السوق غير المنضبطة، وللإصرار على استقرار سعر النقد في التداول، وحرية انتقال السلع والأموال. وقد انهال الثناء على السياسات الاقتصادية التركية من جانب المؤسسات الدولية، واطمأن الشركاء الغربيون الى تسارع اقتصاد السوق والعولمة، والى صدقية وعود الحكومة التركية في الاستجابة لمطالبهم. أما الملف الآخر الذي كسب فيه أردوغان الرهان، مع أنه ما حقق اهدافه المعلنة، فهو الاندفاع باتجاه أوروبا، الى الحدود التي أرضت اليونان بحيث لم تعد تعارض دخول تركيا الى الاتحاد الأوروبي، والى الحدود التي أفضت الى تجاهل الانحياز الأوروبي في المسألة القبرصية. وما حققت تلك السياسة الاندفاعية أي كسب اقتصادي أو سياسي حتى الآن، أي أنها لم ترض أي طموح تركي، بيد أنها حققت سمعة حسنة لحكومة أردوغان ولدى الأوروبيين جميعاً حتى أولئك الذين لا يريدون إدخال تركيا الى الاتحاد! فقد ضغط هؤلاء من ضمن الشروط لبدء التفاوض على ملف الدخول الى الاتحاد الأوروبي، باتجاه ازالة القوانين والممارسات المعيقة للحريات، والمخترقة لحقوق الانسان، التي كان النظام العلماني التركي يصر عليها تقليدياً خلال الحرب الباردة. وكان الأوروبيون والأميركيون يتحملون حتى الانقلابات على النظام من أجل الاحتفاظ بحليف قوي على خاصرة الاتحاد السوفياتي ثم روسيا الاتحادية، وجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز الجديدة. وسار معهم أردوغان الى الآخر حتى في موضوع محتدم تماماً في تركيا من قبل وهو الموضوع الكردي. وقد كسب من وراء تعديل القوانين، وكفّ غائلة الجهات الأمنية والقضائية على المعارضين لاربع جهات وليس لجهة واحدة: رضي الأميركيون والأوروبيون ومؤسسات حقوق الانسان، وهدأ الأكراد بعض الشيء، وقلّم أظافر الجيش والجهات الأمنية، وحقق سمعة حسنة للإسلاميين الذين ما عرف عنهم أي مكان وصلوا فيه الى السلطة عناية بالمجتمع المدني أو مسائل حقوق الانسان والأقليات. والمعروف انه في ملفات تسربت الى الصحافة التركية والأوروبية في الشهور الماضية، تبين ان هناك جهات أمنية واستخباراتية وقضائية في النظام العلماني و"الديموقراطي"التركي مهتمة بمراقبة المعارضين السلميين واغتيالهم، وإرهاب الموالين للحكومة الدستورية القائمة، والتخطيط لانقلاب محتمل، او التفكير باغتيال اردوغان نفسه. ولذلك فعندما هدد رئيس أركان الجيش أخيراً بالتدخل لحماية الطبيعة العلمانية للنظام في تركيا اذا كان ذلك ضرورياً، كان الأميركيون والأوروبيون هم الذين سارعوا الى استنكار ذلك، قبل ان يتذمر أردوغان، ويوقف رئيس الأركان عند حده"في مهاتفة صريحة"كما قال! ... وساعدت البيئات المضطربة في المنطقة في السنوات الخمس الماضية، أردوغان، على تحقيق انجازات وانتصارات ما كان هو نفسه ينتظرها بحيث يبدو الآن ان الجميع في المنطقة محتاجون اليه، وكذلك الأوروبيون والأميركيون. رفض أولاً - وساعده في ذلك البرلمان الذي يملك أكثرية فيه - الإسهام في الحرب الأميركية على العراق في أي شكل، ولو بالسماح باستخدام القواعد والمطارات الأطلسية في تركيا بهذا الاتجاه. وقد غضب عليه الأميركيون وقتها لكنهم يعتبرونه الآن الامكانية الرئيسة في سياساتهم الجديدة للخروج من المأزق العراقي. وقد أحدث ذلك ارتياحاً لدى العرب، وبخاصة ان إخوانهم واشقاءهم في ايران وسورية دخلوا في المسألة العراقية بطرق غير ملائمة. بل إن جهات أوروبية وعربية قوية ومتعددة، تعتبر تركيا الآن العنصر الرئيس للاستقرار في المنطقة، للتوازن مع إيران. وهذا في الوقت الذي تريد فيه إيران الاحتفاظ بالعلاقة الوثيقة مع تركيا وسط الضغوط والحصار بعد الخلاف مع الولاياتالمتحدة منذ مطلع عام 2006، وفي الوقت الذي تلتمس فيه سورية رضى تركيا خوفاً من الملف الكردي عندها، والجزع من الخلاف مع أميركا. وتركيا ذات العلاقات القديمة باسرائيل، ما قطعت علاقاتها بها أيام أردوغان الإسلامي، لكن العلاقات السياسية وحتى العسكرية بردت، وارتفع الصوت التركي بالدعوة لانهاء الاحتلال في فلسطين وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، وتأييد المبادرة العربية للسلام. ولتركيا اردوغان اليوم جنود في أفغانستان ضمن قوات الأطلسي، وأخرى في جنوبلبنان ضمن القوات الدولية والأتراك يريدون منطقة شرق أوسطية خالية من اسلحة الدمار الشامل، ويريدون حل المشكل بين ايران والمجتمع الدولي بالطرق السلمية. لقد كانت تركيا حتى عام 2000 ذات نظام سياسي مضطرب تحكمه المخاوف من الأكراد، والأرمن، واليونان، والقبارصة اليونان، ويلجأ جيشها القوي للحلول العسكرية والأمنية العنيفة في الداخل والخارج، ولا ضمان لنظامها غير وجودها في الحلف الأطلسي. وهي اليوم ركن من اركان الاستقرار في المنطقة، ودولة يُخطب ودّها من دول الجوار، ومن أوروبا والولاياتالمتحدة. إضافة الى ذلك أو من أسباب ذلك: الاقتصاد القوي، وحكومة الأكثرية الديموقراطية المستقرة. ولا شك ان ذلك لا يعود لأردوغان وحكومته فقط، لكن الواقع ان ذلك كله حصل في عهد اردوغان في رئاسة الحكومة، وفي ظل إسلامييه! ... وبعد هذا البيان كله، قد يمكن تعليل ماذا أردت بالعنوان القائل إن تركيا على مفترق الطرق، وتعليل مجازفة أردوغان بترشيح رئيس"محجَّب"لجمهورية تركيا العلمانية القاسية، بل آخر العلمانيات من هذا النوع في العالم! فبعد خمس سنوات من هجمة الولاياتالمتحدة على الارهاب الإسلامي، وعلى الدول الفاشلة التي ما غزتْ منها وبالمصادفة البحتة طبعاً غير أفغانستانوالعراق! تصل ادارة بوش الى واقع فشلها في الأمرين."القاعدة"ما تزال قائمة، وزعيماها طليقا السراح، وعملياتها متوالية. والعراق، وبعد ان خُرّبت كل بناه، يسقط من جنودها فيه يومياً قتلى وجرحى، وخمسة ملايين من العراقيين بين قتلى ومهجرين، ولا يختلف الأمر في أفغانستان على رغم اختلاف الوضع هناك، والسياسات إزاءه. ولذلك لا بد من مخرج ذي شعبتين، احداهما سريعة في العراق، والأخرى استراتيجية تتمثل بمحاولة لملمة الأوضاع المتردية مع الإسلام السني. أما العراق فالذي يبدو ان تقرير بيكر - هاملتون، هو الذي يراد تنفيذه فيه. ولست هنا في معرض الحديث عن فرص النجاح او الفشل. وأما الاسلام السني فإن ادارة بوش، والمنظّرين الاستراتيجيين من حولها، تحدثوا دائماً عن إسلامين، أحدهما أصولي متطرف، والآخر مستنير ومعتدل. وقالوا ايضاً في معرض مناقشة"حرب الافكار"التي يريدون شنها على المتطرفين، إن المطلوب ان يسارع المعتدلون المسلمون الى انقاذ الطائرة التي خطفها المتطرفون. وعلى أثر فشلهم في الحربين: العسكرية المباشرة، والفكرية الايديولوجية، بدأوا يتحدثون عن بدائل أهمها التصالح بالفعل مع الاسلاميين المعتدلين من طريق تمكينهم في العالمين العربي والإسلامي من المشاركة في السلطة كي يكسبوهم في حرب الافكار من جهة، ومن جهة أخرى كي يساعدوا الأنظمة القائمة في تجديد شرعيتها بالزخم الجماهيري الذي يتقدم الاسلاميون موجاته الزاخرة. وحددوا بالفعل من يقصدون بالإسلام المعتدل في العالم العربي: التيارات الرئيسة غير العنيفة في"الاخوان المسلمين". لكن ليس هناك نموذج ناجح للاسلام المعتدل في السلطة حتى الآن غير حكومة"حزب العدالة والتنمية"في تركيا، التي اختبرها الاميركيون والأوروبيون في السراء والضراء طوال السنوات الأربع الماضية. وهي حكومة تتوافر فيها الشروط المطلوبة في شكل مثالي: فهي حكومة غير عميلة لا لهم ولا لغيرهم، وهي حكومة وصلت الى السلطة في انتخابات ديموقراطية، وهي حكومة تملك صدقية لدى المجتمع الدولي ولدى الغرب لتلاؤمها في سائر المجالات، وهي حكومة تملك صدقية لدى المسلمين وكثير من الإسلاميين لشدة تشبثها بالرموز التي يحبها المسلمون البسطاء من دون ان تملك النخب ما تستطيع تعييرها به، وهي حكومة تملك زعيماً كارزماتياً لا تعرف مثله اليوم غير الديموقراطيات الشعبوية في أميركا اللاتينية غير الناجحة كثيراً، ولكن أهم أسباب ظهورها توازنها في وجه الولاياتالمتحدة! وليس من الضروري ان تكون الولاياتالمتحدة، ويكون الأوروبيون، قد حدثوا أردوغان ومشابهيه في كل ذلك. بيد ان تركيا التاريخ والموقع والفعالية والمظهر والاستحسان الداخلي والخارجي، كل ذلك لعب بالتأكيد دوراً في دفع أردوغان الى ترشيح زميله"المحجّب"زوجته هي المحجبة طبعاً واسمها خير النساء! لرئاسة الجمهورية التركية العلمانية، وليس أي سياسي بارز آخر لكن غير محجب من حزبه وقريب منه! ولهذا كله، تقف تركيا اليوم على مفترق طرق: بين ان تتحول الى نموذج إسلامي ناجح وشعبي وصديق للغرب، أو يتشبث بعنقها عسكريو أتاتورك العتاق، الذين ما عادت لهم وظيفة غير عرض ميدالياتهم التي صارت ثقيلة على صدورهم وعقولهم وعلى الشعب التركي! وكي ندرك كم"يحب"الغرب العرب، وكم"يكره"تركيا، فلننظر طريقة"حرصه"على النظام الاسلامي في تركيا، وطريقة"حرصه"على النظام"العلماني"العظيم والناجح في سورية! ولله في خلقه شؤون. * كاتب لبناني