حدق الأب في الشاب الجالس أمامه، وهو يعدد مزاياه كعريس جيد لإبنته، زميلته في جامعة لوزان. وكلما صمت الأب متأملاً في هذا الضيف الذي أجبر على استقباله والحديث إليه، زادت حماسة أكرم في رسم المستقبل الوردي الحالم، مع حبيبة التي اختارها عن قناعة لتكون شريكة حياته. انتهى الكلام ولم يوجه الأب أي أسئلة واكتفى بالقول:"تعامل مع حبيبة وكأنها أخت لك من فضلك، حتى نتريث في هذا الأمر"، ووقف معلناً انتهاء الزيارة، ليغادر أكرم مع بعض الأمل بأن يأتي الرد ايجاباً. في الوقت نفسه طفرت الدموع من عين حبيبة وهي تسمع هذه الكلمات، ليست دموع الفرح، وإنما دموع خيبة الأمل. فهي تدرك أن هذه المحاولة محكوم عليها بالفشل، لكنها اتفقت مع أكرم عليها، عسى أن يحالفهما الحظ. يقول الأب:"لا نعرف شيئاً عن هذا الشاب، فهو مهذب ولكن من يضمن لي أصله وفصله وعائلته، فهو من أقصى الشام ونحن من المغرب، إن عرف هو اسرتها هنا في سويسرا، فكيف لنا أن نعرف اسرته؟". ثم تحدث إلى ابنته بهدوء"العريس المناسب يجب أن يكون مغربياً، وإن حدث لا قدر الله مشكلة زوجية فسنعرف كيف نعالجها". قصة تتكرر تقريباً مع كل فتاة شرقية في سويسرا، فبعد تجارب الفشل المدوية وما تخلفه من مآس عائلية، أصبحت الأسر حذرة من العرسان الذين يوصفون بأنهم مجهولو الهوية. وأدركت غالبية الفتيات أن زوج المستقبل، لن يأتي إلا على الطريقة التقليدية: ترشيح من الأهل والأقارب أو الخاطبة، والشرط الأهم ليس التوافق والحب، وإنما ألا يكون الزوج"داخل على طمع"أملاً بالحصول على إقامة سويسرية. "لن أتزوج بهذه الطريقة مهما حدث"تقول سناء بلغة كلها تحد، وتتابع:"كيف يمكن لفتاة نشأت في الغرب أن تقتنع بأن هذه هي الطريقة الصحيحة؟". وتعترف سناء بأن المبررات التي ذكرها أبو حبيبة صحيحة، ولكن"كيف أستورد زوجاً لا يعرف لغة البلد، ولا نظامها، ولن يعثر على عمل بسهولة بسبب ظروف البطالة، ولأنه سيكون بالطبع غير مؤهل للعمل في وظيفة محترمة، أي أنني سأتكفل بكل شيء والزوج يمضي نهاره أمام الفضائيات وفي الليل في المقهى!!، هل هذا ما يريدونه لي؟". وتقول أم مريم:"ابنتي في سن الزواج، والحمد لله أنها مقتنعة بأن الفتاة الشرقية لها خصوصيتها في العلاقات مع الشباب، ووعدتها بأن نتعاون معاً في اختيار الزوج المناسب، لكن المشكلة أن من نلتقي بهم لا نعرف عنهم أي شيء، وكل أسرة مهاجرة تحكي شيئاً عن ماضيها لا نعرف إن كانت صادقة أو لا، فنشعر بأننا نخاطر بابنتنا. وسنعثر لها على عريس من بلادنا فهذا أفضل، وإن طال الوقت". أما نجوى فتقول:"عندما دخلت سن المراهقة، لاحظت أنني أتحول في الإجازة إلى بضاعة تتفحصها النسوة من أقاربنا والجيران. وأسمع دائماً الكلمات نفسها، ما شاء الله، البنت كبرت، صارت عروسة... ثم يبدأ سرد مواصفات أحد الشباب، خلقه وأدبه ونسبه، ثم أجده أمامي في اليوم التالي متقمصاً دور روميو، حتى أنني قلت لأحد الخطاب إنني افضل رجلاً بلا شارب، فأتي في اليوم التالي وقد حلق شنبه تماماً، فشعرت بالإشفاق عليه. أي فتاة ستقبل بشاب كهذا؟". ويستعيد أبو صالح قصة هزت الجالية العربية في سويسرا قبل سنوات. فقد ظهر شاب وسيم وثري فجأة في حياة احدى الفتيات، وكانت تعمل بائعة. قدم نفسه على أنه رجل أعمال ولم تتردد الأسرة في الموافقة على تزويجه ابنتها. بعد أشهر قليلة على الزواج، التقى أبو العروس أحد أبناء البلد الذي ينحدر منه صهره وراح يتباهى بنسبه أمام الزائر الجديد، الذي أبدى اندهاشه لأنه لم يسمع بهذا"الثري"من قبل في بلاده. وعندما أراد التعرف اليه شخصياً، ماطل الزوج في قبول الدعوة، لأن"الفاكسات ومتابعة أمور البيزنيس تأخذ كل وقته". بعد أشهر قليلة عاد الضيف مرة أخرى إلى سويسرا وحرص هذه المرة على مقابلة والد الفتاة، ليلقي على مسامعه قنبلة، بأن اسم زوج ابنته، مشابه تماماً لإسم شخص في بلاده، ولكنه توفي في حادث سير، ومن الصعب أن يكون هناك تشابه في الأسماء. كانت هذه الكلمات كافية لإثارة الشكوك في قلب الأب الذي اكتشف ان الشاب متهم بقضية اختلاس كبيرة ومطلوب للعدالة في بلده، ومن الواضح أنه زور أوراقاً بإسم الشخص المتوفى ليغادر بها بلا رجعة، فوقع الأب في مأزق. ماذا يفعل؟ أيتستر على مجرم كي لا يحطم حياة ابنته؟ أم يقوم بالإبلاغ عنه وليكن ما يكن؟ أصيب الزوج بالوجوم وهو يستمع إلى التفاصيل التي عرفها حموه، ولم ينطق بكلمة واحدة. وما هي إلا أيام حتى اختفى تاركاً لزوجته رصيداً جيداً في المصرف، واتصالات هاتفية من حين إلى آخر ليطمئن على الأسرة التي لا تعرف حتى اليوم أين استقر.