قبل بضع سنوات، أطلقت شركة "آبل" الكومبيوتر "أي ماك أس 10"، مع حملة إعلانية ضخمة ركزّت فيها على شفافية الكومبيوتر الذي وضعته في غلاف أزرق فاتح، تظهر منه مُكوّناته الالكترونية للأعين. ولم تتردد مجموعة من علماء الاجتماع الاميركيين، وخصوصاً ممن ينتمون الى"مدرسة شيكاغو"فكرياً، في السخرية من الحديث عن شفافية الكومبيوتر. ولاحظوا أن الكومبيوتر كان يعمل عبر أوامر يكتبها المستخدم الذي توجب أن يكون مُلماً بتركيب الحاسوب وطُرق عمله ولغة برمجته. حينها، كان الكومبيوتر مكشوفاً وشفافاً لأعين مستخدميه، بصورة حقيقية وليس بطريقة سطحية من نوع...الغلاف الشفاف. استمرت تلك الشفافية طوال فترة استخدام الكومبيوتر عبر لغة برمجة مُعينة، مثل"كوبول"، ووصولاً الى جيل الحواسيب الذي يعمل بنظام"دوس"DOS، الذي ما زال مستقراً ومحتجباً في قلب الكومبيوتر. واهتزت تلك الشفافية عندما صنع الموهوب الشاب، حينها، بيل غيتس نظام"دوس شيل"الذي مهد لغياب لغة البرمجة عن شاشة الكومبيوتر. ومع ظهور أول نظام تشغيل مع تطبيقات تعمل عبر ايقونات بصرية أي مع نظام"ويندوز 95"، زالت العلاقة المباشرة بين الكومبيوتر وعمله من جهة، والمستخدم من جهة أخرى. بقول آخر، حُجِبَ الكومبيوتر عن أعين مستخدميه: لقد غاصت أوامر نظام"دوس"ولغات البرمجة كافة في غياهبه، واستبدلت ب...الأيقونات. عندما تضرب على ايقونة، تعمل تحتها، وفي خفاء هائل، سلسلة ضخمة من الأوامر التي تتحكم بسير الكومبيوتر. ثمة ههنا، لعبة ظهور وخفاء أشد دهاء ورقة مما يبدو على السطح. في المقابل، لا يسهل الحديث، من خارج الفقه ولغته، عن الحجاب وعلاقات الخفاء والظهور فيه. لا يمنع الحجاب راهناً المرأة المصرية مثلاً، من الدراسة والعمل المهني والرياضة والسياسة والانتماء الى تنظيمات حزبية وارتياد الاماكن العامة وضمنها ملاعب كرة القدم والمقاهي والمطاعم وغيرها. ماذا لو حاولنا تقصي الخيوط بين هذين الخفاءين - الظهورين: الكومبيوتر والحجاب"؟ كيف تنظر المُحجّبات الى علاقتهن بالحاسوب والانترنت والبريد الإلكتروني المُتبادل وغرف الدردشة ومواقع التعارف والصداقة وغيرها؟ تحاول"الحياة"الإجابة عن هذه الأسئلة عبر مجموعة من المقالات تتضمن مقابلات مباشرة مع من يعنيهن ويعنيهم أيضاً هذا الأمر. [email protected] إن نقرة واحدة على عبارة add contact ، وترجمتها"أضف متصل"، تكفي ليُضاف شخص ما الى"غرفة الدردشة"، بغض النظر عن مكانه أو صفاته. لقد صار جزءاً من المجموعة التي تتبادل الأراء، في مساحة خاصة بها على الانترنت. وكثيراً ما لفتت ظاهرة"غرف الدردشة"Chat Rooms "شات رومز" الأنظار. ويعتبرها كثيرون من مظاهر تحول الأرض الى"قرية كونية"حيث يتلاقى الناس من أماكن متباعدة، وكأنهم يجلسون معاً في غرفة منزلية. لا تعترف"غُرف الدردشة"بالحدود وبالمسافات ولا بالتقاليد والأعراف. يبدو أمرها مثيراً للاهتمام، خصوصاً مع الانتشار المتواصل للكومبيوتر والانترنت في المنازل، حيث تبدو"غرف الدردشة"وكأنها"منزل ضمن المنزل". وتبقى مقاهي الانترنت المفتوحة للعامة، المنتشرة في مختلف المناطق والأحياء البيروتية، كغيرها من المُدُن، من الوسائل التي تساعد على التلاقي مع عالم الإنترنت، وكذلك للتلاقي مع أُناس من دول وثقافات ولغات ومشارب ومقاصد مختلفة. يعتبر البعض أن"غُرف الدردشة"وسيلة تواصل مع عالم غريب، بأقل خسائر ممكنة. ويجد فيها الكثيرون فرصة لبناء شبكة علاقات واسعة، من دون حسيب أو رقيب، ومن دون عوائق اجتماعية، فتنشأ علاقات مختلفة وذات معانٍ مختلفة بين المتحادثين، ويتحوّلون أصدقاء أو أحباء"وفي بعض الأحيان تتكلل هذه المحادثات بالزواج، ولو بأرقام ضئيلة نسبياً. ما يسمح به الشرع مع الدخول العميم للكومبيوتر الى البيوت، تبدو"غرف الدردشة"وكأنها تقدر على تجاوز الفوارق الطبقية والتلاوين الدينية والعقائدية. ولحد الآن، لم تظهر عوائق أو اجتهادات دينية تحذّر من استخدامها. وبالتالي لم تجد الفتيات المحجّبات البيروتيات، وحتى المنقّبات منهن، أي اعتراض على استخدام هذه التكنولوجيا. وإلى الآن لا يزال الأهل يجهلون مدى سعة العالم الذي يمكن لمُستخدم الكومبيوتر أن يُبحر فيه. والحال انه عالم واسع ومفتوح، قد يستغلّه البعض من أجل التنفيس والترويح عن أنفسهم. وقد تجد فيه المُحجّبة مكاناً لپ"الاختلاط"الافتراضي، وللتعريف بأفكارها وآرائها في مواقف ربما شكّل حجابها أحياناً، عائقاً أمام اختلاطها أو تقبّلها من قبل الآخر. ومن خلف الشاشة يُفتح باب التعارف على مصراعيه. يكفي أن توافق إحداهن على طلب ال add من أحدهم، فتُعلن انطلاقة علاقة وهمية وغير مشروطة، طالما أنها علاقة عبر"شاشة"و"مفاتيح طباعة". ومما لا شكّ فيه أن هذا الباب يكتسب أهمية خاصة لدى البعض، لأسباب متفاوتة. وصرّحت بعض المُحجّبات البيروتيات بأنهن يجدن في الانترنت فرصة لكسر مجموعة من"الحواجز"التي تُعرقل أحياناً علاقتهن بالمجتمع، من خلال الفرصة التي تُعطيها الانترنت للمحجّبة لكي تقدّم نفسها وأفكارها من دون أحكام مسبقة. ويعتبر الكثير من الفتيات المحجبات أن التعامل معهن في معظم الأوقات يخضع لمحاذير، يضعها غالباً الآخرون، لمجرّد أنهن يرتدين الحجاب. ومثلاً، تعلّق حوراء:"اتهامنا بأننا نشكل"كانتونات"أحياء مغلقة من المحجبات غير دقيق، ولكن غالباً ما تتم علاقات التعارف بين أناس يشبهون بعضهم بعضاً على الأقل في الشكل". وتضيف:"إن لباسنا يضع بعض الحدود، حتى أن بعض الشبان يتفاجأون بأننا نضحك، أو أننا نتمتع بروح الفكاهة". حوراء، في السنة الثالثة، في كلية الآداب، تعتبر أن"غُرف الشات"والكومبيوتر، فتحت أمامها الفرصة لإيصال أفكارها من دون مشكلة. وتروي:"كنت معجبة بشاب في الجامعة، لكنه بالكاد كان يلقي عليّ التحية". وجدت حوراء في موقع البريد الإلكتروني الشهير"هوت مايل"hotmail الطريقة الأمثل من أجل التواصل مع الشاب. وحصلت على عنوانه الإلكتروني. وبعد أن وجهت له دعوة الى التحادث وقبلها، بدأت علاقتهما. أربعة أشهر وستة أيام، تحدد حوراء المدّة التي أمضتها بمحادثة"صديقها"، قبل أن تكشف له عن هويتها الحقيقية. وتوضح حوراء:"فعلت ذلك بعد أن تأكّدت من جميع أفكاره وبأن لا مشكلة لديه في الزواج من فتاة محجبة". وتستدرك:"للأسف كل ما قاله لي على الانترنت، ما لبث أن بدأ ينهار.. فقد بدأ يطلب مني الخروج معه، وأن أريه صوري من دون حجاب... وهكذا اضطررت للانسحاب، لا سيما بعد أن بات يشكك بأنني على علاقة بكثر غيره". انسحاب حوراء من"غُرف الدردشة"، لا ينطبق على كثير من الفتيات المحجبات اللواتي يجدن طريقة للهروب إلى الأمام من خلال استخدام صور قريبات لهن. مثلاً، تقول ريّا:"غالباً ما استخدم صور ابنة خالي، عندما يصرّ من يتحادث معي على رؤيتي للتأكد من هويتي". وريّا تضع على المُدوّنة الالكترونية بلوغ الخاص بها صور قريبتها وتستخدمها على أنها صورتها. وعمّا إذا كانت تشعر بالحرج من وضع صورتها لأنها محجبة، تصف ريّا ما تفعله بأنه"ضروري من أجل الحفاظ على خصوصيتها". لماذا هذه الخصوصية لا تتوقف عند حدود انتهاك خصوصية الغير، أمر لا تتوقف ريّا عنده، فالأساسي لديها أنها تستطيع بهذه الصور الحصول على أكبر عدد من الاتصالات والأصدقاء على"الايميل"الخاص بها. الثقة الغائبة حسنات وسيئات كثيرة ترويها مستخدمات"غُرف الدردشة"من محجّبات بيروت، على اختلاف أعمارهن وأجناسهن. وفي المقابل، فإنهن يجمعن على أن هذا النوع من العلاقات يبقى الأقل خطورة، على رغم الكذب المحيط به. وتؤكد معظم تينك الفتيات، أن الثقة في غرف"الشات"معدومة، لا سيما في الأيام الأولى لهذه العلاقات."لا بد من الانتظار من أجل التأكّد من هوية الشخص الجديد، فقد يكون أياً كان، ويريد أن يتأكد من أخلاقي"، تقول زينب 19 عاماً. وتشير إلى أن أبرز سؤال يوجّه للمحجبات، خلف شاشات الكومبيوتر:"هل أستطيع رؤية صورتك من دون حجاب؟". وترى أن هذا الطلب، نابع من أن بعض اللواتي"لا يحترمن أنفسهن، يقمن بعرض أجسادهن على الانترنت، من دون أن يكشفن عن وجوههن". وتتهكم:" وكأن كشف الوجه والرأس هو فقط محرم...". فالفتاة التي اكتسبت حق وجود كومبيوتر في غرفتها، أو حتى كومبيوتر محمول، اكتسبت بالوقت نفسه أيضاً حق الانتفاع منه بما تراه مناسباً. وترى الكثير من الفتيات، أن الدردشة عبر الكومبيوتر، تعطيهن هامشاً من الحرية، لا سيما عندما يكنّ في ظلّ مراقبة أسرية تحظّر عليهن الخروج مع الشبّان أو التعاطي معهم. وتجد بعض الفتيات في جهاز الكومبيوتر وما يحويه من شبكات اتصالات عامة وخاصة، فرصة من أجل القفز فوق بعض القيود الاجتماعية والعائلية، فتفتح لها شبكة علاقات واسعة، تنتشر على اتساع الكرة الأرضية. وتجد لينا في"غُرف الدردشة"طريقة مثلى"للانتقام من الحظر المفروض عليها من أهلها، ما يعكس عدم تجذر قبوله في نفسيتها وقناعاتها". وتقول لينا:"لم يعد بإمكان أخي أن يراقبني، وأن يلحق بي من مكان إلى آخر، للتأكد مع من أخرج". وتضيف، مشيرة إلى كومبيوترها المحمول:"هنا أستطيع ارتداء ما يحلو لي، والكلام مع من أرغب". وتسخر قائلة:"الرقابة هنا... صفر!".