لا يختلف المشهد الثقافي في أميركا اليوم عنه في بلدان عدة من العالم، إذ نلحظ تزايداً مضطرداً في كمية الإصدارات من الكتب مصحوباً بتقلّص مستمر للمساحات المفردة للمراجعات النقدية في الصحافة عموماً. حصاد العام الماضي مثلاً تجاوز ال 150،... كتاب بينها عدد لا بأس به من الكتب الأدبية وبعضها لم يحظَ بما يستحقه من اهتمام النقد. في تحقيق لصحيفة"البوسطن غلوب"أجرته الناقدة الأميركية اللامعة غايل كالدول الحائزة جائزة بوليتزر للعام 2001 عن مراجعاتها النقدية للأدب المعاصر، حول أهم ما صدر في الأدب الروائي في أميركا أخيراً، قدّمت لائحة بأسماء ستة كتب اعتبرتها الأفضل بين الإصدارات الأدبية الحديثة، وبعد جولة بانورامية عن أهم هذه الإصدارات واقفة على موضوعاتها والسمات التي تمنحها للأدب الأميركي راهناً. بداية تجدر الإشارة إلى الإقتراع الذي تصدّر أعداد"النيويورك تايمز بوك ريفيو"لأشهر، حول أفضل رواية أميركية صدرت خلال الخمسة وعشرين عاماً الماضية، وجاءت نتيجته لمصلحة"المحبوب"رواية توني موريسون الشهيرة. وفي ما يخصّ الروايات الجديدة، الملاحظة الأولى أن الكثير منها استمد موضوعاته من تاريخنا المعاصر، ربما لأن واقع حياتنا لم يعد بعيداً من الخيال الروائي. وعلى سبيل المثل لا الحصر نجد أنّ رواية توماس بينشون الضخمة"ضدّ اليوم"التي أثارت ضجة كبيرة بصفحاتها الألف والمئة، تضمنت تعنيفاً قاسياً ضدّ أمور كثيرة حاصلة، منها: سياسة الفوضى، معرض شيكاغو الدولي للعام 1893 حكايا المغامرات الكونية الصاعقة بطيشها ونزقها. كلاير ماسود في روايتها"أطفال الإمبراطور"كتبت عن سلسلة نمطية من التصرفات والسلوكيات المضحكة المتعلقة بمدينة نيويورك التي تحلّت بدرجة عالية من ضبط النفس بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، 2001. كِن كالفاس أيضاً خرج بكوميديا سوداء عن أحداث أيلول. طبيعة الفوضى التي يتفرّد بها هذا البلد. الكاتبة البريطانية جوليان بارنز، نقلت الحياة الداخلية لِ آرثر كونان دويل في كتابها"آرثر وجورج". أما الروائي وورد تجاست، فسعى في روايته"النسيان"إلى اكتشاف العواقب الأخلاقية المترتبة على مجريات زمننا الحاضر. الحرب الأهلية تناولها ستيفن رايت في روايته"المَلْغَمَة بولكا"التي اتّخذ فيها السرد طابع ال"بيكاريسك"وهو نوع من القص - إسباني الأصل- يصوّر حياة المتشردين. الحرب الفيتنامية هي الأخرى كانت محور رواية أليس غريينواي"الفتيات ذوات الطيف الأبيض". غاري شتينغارت استمر، على غرار أعماله السابقة، في وصف تاريخ الحماقة الإنسانية من خلال روايته"دليل الفتاة الروسية الحديثة الظهور في الحفلات"والتي تخيّل فيها أمة غنية بالموارد النفطية، أسماها"أوبسرديستان"وكلمة"أوبسرد"بالإنكليزية تعني السخف أو التفاهة، وبهذا يكون الرديف العربي لتلك التسمية:"تفاهتيستان" وبعيداً من الروايات المستقاة من الواقع، ثمة روايات كثيرة صدرت حديثاً متناولةً موضوعات متنوعة وفي جردة لأهمها، نقع على رواية سارا غرون"ماء للفيلة"التي ضربت فيها الكاتبة على وترٍ حسّاس في المجتمع الأميركي، هو تعاطفه الكبير مع الحيوان، ورواية ماريشا بيسل الأولى المتميزة"موضوعات استثنائية في فيزياء البؤس"التي تنطوي على جسارة في تحويل منهج أساسي في الأدب الإنكليزي إلى لغز ذكي وأكثر حيوية. هناك أيضاً"انعطافة جيدة"رواية كايت أتكنسون، وپ"فوائد السحر"لهايدي يولافيتز، والأخيرة تدور أحداثها حول عملية خطف تتعرض لها تلميذة مدرسة، وما يلي ذلك من مراحل علاج نفسي. ومن روايات جان لو كاري التي ينتظرها القرّاء بشغف، صدرت مؤخراً"أغنية البعثة"رواية مؤثرة بعمقها الوجداني عن مترجم بريطاني ولد في الكونغو. ويبدو أن أشباحاً كثيرة تتجول داخل المشهد الأدبي الراهن، إذ نقع على"الشبح والطاولة"لسوزان برن، وپ"التاريخ الموجز للأموات"لكيفن بروكميير، وپ"العالم المسكون"لدافيد لونغ، والأخيرة رواية مؤثرة عن رجل ينتحر في حين يظلّ وعيه حيّاً، ليتبين لاحقاً وعلى نحو مذهل، أنه خالٍ من الأسى. ثلاثة أنواع ومن خلال نظرة شاملة إلى المشهد الثقافي الراهن، تطالعنا ثلاثة أنواع من الإصدارات: تلك التي حققت خبطة روائية مفاجئة، وتلك التي أحرزت النجاح المتوقع لها، وأخيراً، تلك التي جاءت مخيبة للآمال ودون المستوى المنشود على رغم انتمائها إلى أصحاب الخبطات الثقيلة، أو النجاحات الكبيرة السابقة. ومن النوع الأخير نستعرض آخر أعمال تشارلز فرايزر مثلاً،"ثلاثة عشر قمراً"المتمحور حول الحرب الأهلية الأميركية، والذي أتى فيه السرد على لسان رجل أبيض متّخذاً طابعاً ملحمياً، وهو إن بدا ممتعاً، إلا أنه لم يرقَ إلى فتنة أو جاذبية"الجبل البارد"تحفة فرايزر السابقة. الحال ذاتها مع"الإرهابي"رواية جون أبدايك الأخيرة، ومع"الحفر حتى أميركا"رواية آني تايلر التي جاءت مملة لفرط انخراطها في وصف واقع الحياة المنزلية والعائلية. نذكر أيضاً جوليا غلاس، الروائية الشابة، التي لم تستطع بعملها الثاني"العالم كله انتهى"المسلّي إنما الفاقد للعمق، أن تحقق النجاح الذي حققته في روايتها الأولى"شهور حزيران الثلاثة". مقابل هذا نجد أن على رغم صغر حجم رواية فيليب روث الأخيرة"كل رجل"وارتفاع نبرة الأنا فيها، استطاعت أن تشكّل واحداً من أكثر مشاهد الموت عمقاً وتعبيراً ورسوخاً في الذاكرة. النجاح والوقع ذاته حققته رواية بيتر كاري"سرقة"التي جعلت من الفن ومحبة أخوين بعضهما بعضاً موضوعاً لها. أيضاً لن نغفل"إرث الخسران"رواية كيران ديزاي الحائزة جائزة بوكر للعام 2006، وهي رواية مبكية - مضحكة في آن واحد، تتراوح أحداثها بين الهندونيويورك. كذلك هناك"الحدس"رواية أليغرا غوودمان، التي تستعرض بذكاء ودقة أساليب التفكير المختلفة والمشاكل الأخلاقية التي يفرضها العيش في مجتمع علمي. وفي ما يخصّ"الرواية الخبطة"فهي بلا ريب رواية أندرو هوليران"حزن"التي أحرزت نجاحاً كبيراً لم يكن متوقعاً. حكايتها تدور حول رجل يهيم في ليالي مدينة واشنطن الهادئة، ومن خلال الإضاءة على مشاعره يشير الكاتب إلى حقيقة جوهرية مفادها أن طقوس الفَقْد، وشعائر الحداد هي هي أينما كانت، وأنها بقدر ما هي خاصة بقدر ما هي كونية. في ما يتعلّق بالأدب القصصي وأهم ما نُشر منه أخيراً تطالعنا الأعمال القصصية الكاملة لماري غوردون"قصص ماري غوردون"، وقد تضمنت الكثير من القصص الجديدة. وإلى جانبها تقف أيضاً"الأعمال الكاملة"للرائدة آيمي هامبل. من كندا، يطالعنا عملان قصصيان لإثنتين من أبرع مَنْ كتب هذا النوع في الأدب الأميركي المعاصر:"اعتلال أخلاقي وقصص أخرى"لمارغريت آتوود، و"المشهد من قلعة الصخرة"لآليس مونرو. أيضاً هناك مجموعة جورج ساندرز"أمة الإقناع"التي ضمت قصصاً عجيبة ومخيفة عن بعض حماقات ثقافتنا المعاصر. ختاماً نصل إلى تعداد الكتب التي اُعتبرت نخبة النخبة واستطاعت تغيير حياة القارئ لفترة وجيزة أو ربما لما يتعدى ذلك. ستة كتب فقط، كما أسلفنا، بينها ثلاثة لأقلام نسائية، اختيرت لتكون الأفضل بين ما صدر في الأدب الروائي أخيراً. ستة كتب، تباعدت موضوعاتها وتباينت أساليبها ولم يجمع بينها سوى البراعة والتفوق في الخلق، إن لجهة تقنياتها السردية، أو لجهة غنى المخيلة الإبداعية فيها، والنتيجة، أنها جميعاً أتت على قدر من الجمال والروعة، استحقت عليه تمييزها عن سواها، باهتمام النقد الإستثنائي بها، وبترشيح بعضها لأهم الجوائز الأدبية الأميركية. هي الآتية: *"فجر الأبطال الخارقين"لدبرا آيزنبرغ. مجموعة من ست قصص قصيرة، غاية في الرقة والعمق الوجداني، محبوكة بمهارة وذكاء حاد، وقد تباينت موضوعاتها من نيويورك ما بعد 11/9 إلى قصة امرأة هاربة من حبّ قاتل. *"موقع الأرض" لريتشارد فورد. رواية عن وكيل أراضٍ ذي شخصية فريدة، لا يبالي بأخلاقيات المجتمع وأدبياته العامة، يقود سيارته حول ضواحي نيوجرزي متأملاً في معضلتي الحياة والموت. أسلوب السرد فيها جاء على قدر من السلاسة والليونة يشعر القارئ معه كما لو أنه جالس إلى جوار البطل في سيارته فيما هو يجوب المنطقة. *"الطريق" لكورماك ماكارثي. رواية ذات أجواء بيكيتية نسبة إلى صموئيل بيكيت كئيبة وعميقة، يغامر فيها الروائي باقتحام أرض يصعب تخيلها، تنتمي إلى العالم الما بعد نووي، مصوراً رجلاً وابنه وهما يسيران في العدم. *"بعد هذا"لآليس ماكديرموت. بأسلوب شديد الدقة والإحكام، يذكّر بفيرجينيا وولف، وبعاطفة جامحة تخصّها وحدها، تنقل الكاتبة مجموعة من الصور الحيّة عن حياة عائلة أميركية، إيرلندية الأصل، في العقود اللاحقة للحرب العالمية الثانية. إنها رواية عميقة المضمون ومتقنة الأسلوب. *"صانع الصدى" لريتشارد باورز. رواية بديعة، عميقة، مؤثرة، عن شاب يُصاب باختلال في دماغه إثر حادث اصطدام شاحنته. تجري أحداثها الرئيسة في سهول نبراسكا المقفرة، فيما تظللها أحداث جانبية أخرى، كالحرب على أفغانستان وقصة هجرة كَرَاكِيّ التلال الرملية وتوقفهم كل ربيع على الأراضي المحاذية لمجرى نهري. عمل بارع، متقد العاطفة عن الذاكرة ونفاذ البصيرة وعظمة الطيران. *"العَرَضِيّ"للكاتبة الاسكتلندية آلي سميث. رواية ممتعة وجذابة عن غريب يظهر فجأة أمام الباب. تنطوي على معرفة بالميتافيزيقا والسينما.